لماذا يخشى قيس سعيّد المحكمة الدستورية؟
بات معلوما لدى النخب التونسية القانونية والسياسية والمدنية ونظيراتها الأجنبية أن المحكمة الدستورية شكّلت ولا تزال مادّة إعلامية دسمة في كل وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة، ومركز اهتمام فكري وأكاديمي في جداول أعمال مراكز البحوث والدراسات والمؤسّسات الجامعية القانونية وغير القانونية، وشعارا سياسيا يحمل بريقا له جاذبية لا مثيل لها في الحملات الانتخابية للوصول إلى كرسي الحكم في تونس منذ سنة 2011. إذ لا يكاد يوجد حزب أو شخصية سياسية ممن ترشحّ للمجلس التشريعي ولمنصب رئيس الجمهورية لم يعد الناخبين بإرساء هذا الهيكل الدستوري الهام، فهو صمّام أمان احترام الدستور والتداول السلمي على السلطة. من نتائج غياب المحكمة الدستورية الأزمة الدستورية التي عاشتها تونس عشية هروب زين العابدين بن علي سنة 2011 والخلاف المثار بشأن من يخلفه الوزير الأول محمد الغنوشي أو رئيس مجلس النواب فؤاد المبزّع، وقد أدت الاجتهادات إلى إزاحة الأول بعد التولية لفائدة الثاني. ونزاع السلطة الذي عرفته تونس إبّان رئاسة المنصف المرزقي 2011 - 2014 مع رؤساء الحكومات حمادي الجبالي وعلي العريض ومهدي جمعة. ومن إفرازات هذا الغياب أيضا الصراع الحاد الذي بلغ حدّ التآمر بين الرئيس الباجي قائد السبسي ورئيس حكومته يوسف الشاهد الذي مكّن له في البداية كاتب دولة، ثم وزيرا للشؤون المحلية في حكومة الحبيب الصيد، قبل أن يولّيه أمر رئاسة الحكومة سنة 2016 واستمّر في منصبه إلى سنة 2020.
أما بعد أن آلت الرئاسة إلى قيس سعيّد قبل أربع سنوات، فإن التنازع على السلطة مع رئيس الحكومة هشام المشيشي ومن ورائه الأغلبية البرلمانية المشكلة من حركة النهضة الإسلامية وحليفيها حزب قلب تونس الليبرالي وائتلاف الكرامة الإسلامي المحافظ تحوّل إلى معركة كسر عظم، أفضت إلى واقعة 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2021 المصنّفة في الكتابات الأكاديمية والسياسية المعاصرة الغربية وغير الغربية "انقلابا رئاسيا" من الرئيس سعيّد على رئيس حكومته الذي اجتباه بنفسه لتولي قيادة الحكومة التونسية، وعلى دستور البلاد لسنة 2014 الذي كان ثمرة سلطةٍ تأسيسيةٍ منتخبة، ونتاج فعل نخب حداثية ولائكية وأخرى ليبرالية- يسارية. وقد احتكر الرئيس تأويله بطريقة تعسفية، واستخدم ذلك التأويل، مستغلا غياب المحكمة الدستورية صاحبة شرعية الحسم في الاختلافات والقضايا الدستورية، ومن دون ردع من أي جهة دستورية، لإبطال العمل بذلك الدستور، واستبداله بالأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 كنظام مؤقت للسلطات العمومية، ودستور 25 جويلية (يوليو/ تموز) 2022 الذي كتبه من دون أن يشرك أحدا في كتابته، الأمر الذي أعاد تونس إلى الاستفراد بالسلطة وإجهاض التجربة الديمقراطية الفتية وفقدان ميزة الإفلات من الاستثناء العربي التسلّطي والاستبدادي.
من الناحية التشريعية الصرفة، التزم المجلس الوطني التأسيسي بتضمين دستور 27 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2014 قسما يحمل عنوان المحكمة الدستورية من سبعة فصول، وأحدث هيئةً مؤقتة، تختصّ بمراقبة دستورية مشاريع القوانين وفق ما جاء في الفقرة السابعة من الفصل عدد 148 من الباب العاشر من الدستور المتعلق بالأحكام الانتقالية، وأقرّ مجلس نواب الشعب في الفترة 2014-2019 القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 المؤرّخ في 3 ديسمبر/ كانون الأول 2015 المتعلق بالمحكمة الدستورية، وأفرد الرئيس قيّس سعيّد في دستوره لسنة 2022 المحكمة الدستورية بالباب السادس المكوّن من ثمانية فصول.
يبرُز الاختلاف بين مختلف التشريعات في تونس عميقا وجذريا فيما يتعلق بالموقف من الشغور المؤقت أو الدائم في منصب رئيس الجمهورية
تلتقي تلك التشريعات في تعريف المحكمة الدستورية بأنها "هيئة قضائية مستقلّة"، وتتشابه في مضامينها المتعلّقة بمراقبة دستورية القوانين من تلك المحكمة، وهي قوانين تعرضها عليها السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ويمكن أن يعرضها 30 نائبا حسب دستور سنة 2014، أو رئيس الجمهورية أو 30 نائبا أو نصف أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم (الغرفة الثانية) في دستور سعيّد لسنة 2022. وينطبق هذا الاتفاق التشريعي على المعاهدات التي يقدّمها رئيس الجمهورية للمحكمة الدستورية للنظر في دستوريتها قبل ختم مشروع قانون الموافقة عليها، وعلى القوانين التي تحيلها المحاكم تبعا للدفع بعدم الدستورية بطلبٍ من أحد الخصوم في الحالات وطبق الإجراءات التي يقرّها القانون، وعلى النّظـام الدّاخلي لمجلس نوّاب الشّعب سابقا والنّظام الدّاخليّ لكل من البرلمان والمجلس الوطنيّ للجهات والأقاليم حاليا.
لكن التباين بين مختلف التشريعات يظهر جليا في تركيبة المحكمة الدستورية من حيث عدد أعضائها وآليات تكوينها ووظائف رئيسها وسلطاته. يذهب دستور 2014 إلى أنها "تتركّب من اثني عشر عضوا من ذوي الكفاءة، ثلاثة أرباعهم من المختصيّن في القانون الذين لا تقلّ خبرتهم عن عشرين سنة. يعيّن كل من رئيس الجمهورية، ومجلس نواب الشعب، والمجلس الأعلى للقضاء، أربعة أعضاء، على أن يكون ثلاثة أرباعهم من المختصيّن في القانون، ويكون التعيين لفترة واحدة مدّتها تسع سنوات، وينتخب أعضاء المحكمة من بينهم رئيسا ونائبا له من المختصين في القانون". في حين تتركّب الهيئة نفسها وفق دستور 2022 "من تسعة أعضاء تتمّ تسميتهم بأمر، ثلثهم الأوّل أقدم رؤساء الدّوائر بمحكمة التّعقيب، والثّلث الثّاني أقدم رؤساء الدّوائر التّعقيبيّة أو الاستشاريّة بالمحكمة الإداريّة، والثّلث الثّالث والأخير أقدم أعضاء محكمة المحاسبات، وينتخب أعضاء المحكمة الدّستوريّة من بينهم رئيسا ونائبا له طبقا لما يضبطه القانون". ويبدو أن سعيّد قد استنسخ عدد أعضاء المحكمة الدستورية وكيفية اختيارهم من المجلس الدستوري الذي بعثه الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي وجاء في قانونه الأساسي عدد 26 لسنة 1996: "يتركّب المجلس الدستوري من تسعة أعضاء بما فيهم الرئيس يختارهم رئيس الجمهورية خاصة من بين ذوي الخبرة القانونية المتميّزة"، فلا فرق بين الاختيار من بين ذوي الخبرة القانونية والاختيار بالصفة، فرئيس الدولة هو صاحب الفضل على أعضاء مؤسسة دستورية يفترض فيها الاستقلالية والحياد التام على مختلف السلطات (الوظائف حسب دستور 2022).
يبرُز الاختلاف بين مختلف التشريعات عميقا وجذريا فيما يتعلق بالموقف من الشغور المؤقت أو الدائم في منصب رئيس الجمهورية، ففي حالة الشغور المؤقت وفق الفصل 84 من دستور 2014 ولأسباب تحول دون تفويضه سلطاته، تجتمع المحكمة الدستورية فورا وتقرّر الشغور فيحلّ رئيس الحكومة محلّ رئيس الجمهورية على أن لا تتجاوز مدة الشغور 60 يوما. ولقد تردّد في الأوساط السياسية والبرلمانية التونسية أن رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد حاول تطويع هذه الفقرة من الدستور لتولي الرئاسة إبّان مرض الباجي قائد السبسي قبل وفاته بأشهر قليلة سنة 2019 ولكنه فشل فشلا ذريعا لما لقيه من تصدّي المجتمعين السياسي والمدني. وإذا تجاوز الشغور الوقتي (المؤقت) الستين يوما وفق الفقرة نفسها من الدستور ذاته، أو في حالة تقديم رئيس الجمهورية استقالته كتابة إلى رئيس المحكمة الدستورية، أو في حالة الوفاة أو العجز الدائم، أو لأي سببٍ آخر من أسباب الشغور النهائي، تجتمع المحكمة الدستورية فورا وتقرّر الشغور النهائي، وتبلغ ذلك إلى رئيس مجلس نواب الشعب الذي يتولّى فورا مهام رئيس الجمهورية بصفة مؤقتة لأجل أدناه 45 يوما وأقصاه 90 يوما، وهو ما طُبّق، من دون معاينة من المحكمة الدستورية، مراعاة للمصلحة الوطنية العليا، والتزمت الطبقة السياسية التونسية وكافة التونسيين بجميع حيثياته، فتم نقل السلطة بطريقة سلسة من دون معارضة من أحد عند وفاة الرئيس السابق الباجي قائد السبسي، ليخلفه رئيس البرلمان آنذاك محمد الناصر، وعرفت تونس بعد ذلك تنظيم انتخابات رئاسية سابقة لأوانها أدّت إلى فوز قيس سعيّد بالرئاسة يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
شكلانية النص الدستوري التي تمسّك بها سعيّد، تقتضي قياساً أن الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 باطلة دستورياً
وعلى عكس روح الاستقلالية والحياد المستبطنة في دستور 2014، وما احتواه من تعقيد وصرامة في تعيين أعضاء المحكمة الدستورية، خشيةً من أن يسيطر عليها طرف سياسي أو اتجاه أيديولوجي محدّد، ويوظّفها في خدمة مصالحه الحزبية أو الفئوية الضيقة، ما حال دون تشكيلها خمس سنوات أو يزيد، اختار دستور سعيّد لسنة 2022 طريقة الأقدمية في الرتبة في الأقضية الثلاثة العدلي والإداري والمالي، ومن ثمّة تكريس الزبونية والتزلّف للسلطة الحاكمة من أجل التمكّن من المنصب الذي سيفتح الباب أمام عضوية المحكمة الدستورية. ولكن الأخطر من ذلك كله تحويل رئاسة المحكمة إلى وظيفة سياسية، إذ لم يعد دورها يقتصر على معاينة الشغور في منصب رئيس الجمهورية لأي سبب كان، وتمكين جهة منتخبة من سدّ ذلك الشغور مؤقتا في انتظار تنظيم انتخابات رئاسية، وإنما أتاح الدستور الجديد الفرصة أمام رئيس المحكمة الدستورية، غير المنتخب انتخابا مباشرا من الشعب، لتولي رئاسة البلاد مؤقتا في حالة الشغور الدائم بدلا من رئيس مجلس النواب البالغ منصبه بواسطة الانتخابات المباشرة، كما جاء في صريح الفصل 109 "عند شغور منصب رئيس الجمهوريّة لوفاة أو لاستقالة أو لعجز تامّ أو لأيّ سبب من الأسباب، يتولّى رئيس المحكمة الدّستوريّة فورا مهامّ رئاسة الدّولة بصفة مؤقّتة لأجل أدناه خمسة وأربعون يوما وأقصاه تسعون يوما. ويؤدّي القائم بمهامّ رئيس الجمهوريّة اليمين الدّستوريّة أمام مجلس نوّاب الشّعب والمجلس الوطنيّ للجهات والأقاليم مُجْتَمِعَيْن، وإن تعذّر ذلك، فأمام المحكمة الدّستورية. ولا يجوز للقائم بمهامّ رئيس الجمهوريّة بصفة مؤقّتة الترشّح لرئاسة الجمهوريّة ولو في حالة تقديم استقالته". وربما يعود هذا الاختيار الغريب عن العملية الديمقراطية إلى استحضار سعيّد تجربة انتقال السلطة عشية انهيار حكم بن علي سنة 2011 وتولي رئيس مجلس النواب آنذاك فؤاد المبزع رئاسة الجمهورية، وإلى صراعه المرير وتنازع الصلاحيات مع رئيس البرلمان التونسي، راشد الغنوشي 2019-2021، لكن سعيّد نسي أن منح الدستور رئيس المحكمة الدستورية حق الرئاسة مؤقّتا في حالة الشغور سيجعله بالمرصاد للرئيس بحثا عن الهفوات والاختفاء بسبب المرض أو الغياب عن ممارسة الوظيفة كما حدث مع الرئيس سعيّد نفسه في النصف الثاني من شهر مارس/ آذار ومطلع شهر إبريل/ نيسان سنة 2023 وجعل بعضهم يطالب بإعلان "شغور رئاسي"، ولم لا بربط علاقات مع جهات أجنبية أو مراكز قوى ونفوذ داخلية لإطاحة الرئيس من البوابة الدستورية إذا اقتضى الأمر، والبحث عن بديلٍ له يضمن مصالح تلك الجهات واللوبيات.
بلغ النقاش العام والصراع السياسي بشأن إرساء المحكمة الدستورية في تونس أوجه سنة 2021 حين صادق البرلمان التونسي على تعديل القانون الأساسي عدد 50 لسنة 2015 المنظم للمحكمة الدستورية لتخفيض الأغلبية المطلوبة لتزكية المرشحين لعضوية المحكمة من أغلبية الثلثين أي 145 نائبا إلى أغلبية الثلاثة أخماس أي 131 نائبا، من أجل تجاوز التعثر في انتخاب أعضائها الأربعة من البرلمان بعد ست جلسات انتخابية أفضت إلى انتخاب عضو واحد.
اعتبر سعيّد ذلك التعديل غير دستوري، وقرّر عدم ختم القانون وإعادته إلى البرلمان، وأرسل إلى المجلس رسالةً كتبت على طراز كتب الخلفاء إلى ولاتهم في الأمصار، خاطب فيها رئيس مجلس النواب قائلا في ديباجتها: "السيد رئيس مجلس نواب الشعب إنكم تعلمون دون شك ما نصّ عليه الدستور في الفصل الثاني والسبعين منه من أن رئيس الجمهورية يسهر على احترام الدستور، وإنني كنت أقسمت بالله العظيم بمقر مجلسكم على أن أحترم دستور تونس وتشريعها كما تعلمون أيضا أن الدستور الذي أقسمت على احترامه يمنحني حقّ رد مشاريع القوانين كافة باستثناء مشاريع القوانين الدستورية، وحدّد الآجال بعد أن اشترط التعليل كما هو منصوص على ذلك بالفصل 81 منه". وفي الرسالة نفسها، استحضر سعيّد آيات من القرآن الكريم وأشعارا لأبي العتاهية وما ورد في الفصل 148 من دستور 2014 أن إرساء المحكمة الدستورية يتم بعد ستة أشهر يقع احتسابها بداية من الإعلان عن نتائج الانتخابات التشريعية لسنة 2014، وبالتالي، فإن انتخاب أعضائها بعد ست سنوات يعدّ إجراء لادستوريا حسب رأيه، كما استحضر الرئيس سعيّد كل ما يدعم موقفه من القرارات التعقيبية وآراء المحكمة الإدارية المقارنة وتأويلات لغوية تم استخدامها بطريقة سوريالية، كقوله: "ولم يتعرّض المجلس الوطني التأسيسي جزافا لإرساء والإرساء ليس الأحداث فإرساء كما أوضح ذلك صاحب التحرير (يقصد الشيخ الطاهر بن عاشور صاحب تفسير القرآن الكريم "التحرير والتنوير") في شرحه لقوله تعالى "مجراها ومرساها" إذا جعلها راسية، أي واقفة على شاطئ. ولكن المحكمة الدستورية التونسية لم ترس أو تقف في أي مرسى أو شاطئ، بل بقيت تتقاذفها الأمواج في ظل ريح صرصر عاتية تتقلب كل يوم، بل وكل ساعة وتهبّ في شكل إعصار مصطنع في كل اتجاه".
حلّ قيس سعيّد المجلس الأعلى للقضاء واستبدله بمجلس طيّع هو من حدّد له صلاحياته وولاءه ومشروعيته
يعلم سعيّد أن عدم احترام الدستور لم يقتصر على تأخّر انتخاب مجلس النواب أعضاء المحكمة الدستورية ست سنوات، تأخّر فرضته ظروف انتقال سياسي وديمقراطي دقيقة ومعقّدة، هي الظروف نفسها التي عرفت انتخابات رئاسية سابقة لأوانها بعد وفاة الرئيس السابق الباجي قائد السبسي يوم 25 يوليو/ تموز 2019، من دون إقرار المحكمة الدستورية الشغور النهائي بسبب الوفاة، كما هو منصوص عليه في الفقرة الثانية من الفصل عدد 84 من دستور تونس لسنة 2014. ومع ذلك، ترشّح سعيّد لتلك الانتخابات، وقبل بالمشاركة وتولى الرئاسة بعد فوزه على منافسه نبيل القروي، ضاربا عرض الحائط باشتراط الدستور التونسي إعلان المحكمة الدستورية الشغور، فشكلانية النص الدستوري التي تمسّك بها سعيّد في ما يتعلّق بانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية بعد ستة أشهر من انتخابات 2014 معتبرا ببطلان تشكيل تلك المحكمة خارج الآجال المنصوص عليها، تقتضي قياسا أن الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 باطلة دستوريا، بسبب عدم وجود محكمة دستورية تعاين الشغور في منصب رئيس الجمهورية وتعلم به رئيس مجلس النواب، قبل تنظيم أي انتخابات لاحقا، والأولى طبقا للقياس نفسه بعث المحكمة الدستورية، ثمّ تنظيم الانتخابات الرئاسية.
لم يجد الرئيس سعيّد حرجا في توسيع رقعة الخلاف الدستوري بشأن المحكمة الدستورية وما صاحبه من جدل سياسي وتنازع للسلطات وانقسام حادّ في المجتمع السياسي التونسي، والذهاب بذلك الخلاف وما صاحبه من نقاش عام إلى خارج تونس، فقد حاضر في أثناء زيارته روما في يونيو/ حزيران 2021 من منبر المحكمة الدستورية الإيطالية بحضور رئيسها ومجموعة من أعضائها القضاة عن "تاريخ مراقبة دستورية القوانين في تونس". وعلى الرغم من أن تلك المحاضرة لم ينشرها موقع الرئاسة، ولم تتحدّث في شأنها الصحافة التونسية، والاكتفاء بالإعلان عن عنوانها صحبة فيديو استعراضي صامت لا يتجاوز ثلاث دقائق، فقد رشح من أوساط صحافية ومدنية إيطالية تجاهل سعيّد في محاضرته، التي دامت ساعة، المجلس الدستوري الذي أحدثه الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، وعدم التعليق على تلك المؤسّسة الصورية التي أعطت شرعية للاستبداد، فقد كان ولاؤها الأول والأخير لمن أنشأها كما يستشفّ من قانونها المؤسس لسنة 1996 ومن الفصل 72 من الدستور التونسي بعد تنقيحه سنة 2002. وقد تُرجم ذلك الولاء في إقرار دستورية الرئاسة مدى الحياة بعد أن كانت محدّدة بثلاث ولايات تدوم كل واحدة خمس سنوات، عبر استفتاء تم تنظيمه للغرض سنة 2002، ووصفه المؤرّخ التونسي عبد الواحد المكني بأنه "أضحوكة تم تنظيمه على النمط البلشفي وعلى نمط جمهوريات الموز". واكتفى الرئيس سعيّد بتناول تجربة الهيئة المؤقتة لمراقبة دستورية مشاريع القوانين التي أحدثها دستور 2014، مشيدا بدورها ضامنا لدستورية القوانين وسيادة القانون. ومع ذلك، سارع إلى حلّها يوم 25 يوليو/ تموز 2021 ضمن إجراءاته الاستثنائية، مستبقا إمكانية طعونها في تلك الإجراءات وإقرار لادستوريّتها فكتم صوتها إلى الأبد، مثلما أبطل العمل بالدستور الذي مكّنه من كرسيّ الرئاسة وأقسم على احترامه.
لا يتمثّل سعيّد حجم خطورة غياب المحكمة الدستورية في حال حدوث فراغ في مؤسّسة الرئاسة ينتج عن العجز أو الوفاة أو غيرها من أسباب
أسرع الرئيس سعيّد إلى استخدام سلطة المراسيم، فأصدر المرسوم عدد 11 لسنة 2022 وقد تمّ بموجبه حلّ المجلس الأعلى للقضاء واستبداله بمجلس طيّع هو من حدّد له صلاحياته وولاءه ومشروعيته، ثم أردفه بالمرسوم عدد 35 من السنة نفسها، فزاد تبعية المجلس لسلطة رئيس الجمهورية، وأعفى بمقتضاه 57 قاضيا من القضاة غير المطيعين للرئيس، فهو يعرف أن القضاء في بلدان العالم الثالث وفي الأنظمة الشمولية هو من وسائل الحكم وترسيخ نفوذ الحاكم، بينما لا يزال يتحفّظ على إرساء المحكمة الدستورية، وتجنّب إصدار مرسوم ينظّم عملها بعد أن تحوّل بداية من 25 يوليو/ تموز 2021 إلى صاحب الأمر والنهي الأول والأخير في الدولة التونسية، فالمحكمة الدستورية وسيلة لمراقبة الحكم والحاكم والحدّ مما ينزع إليه من تسلطية واستبداد بواسطة التشريعات والقوانين، وليست أداة لبسط النفوذ أو توسيعه، فما من شك في أن عرض ما أتاه الرئيس سعيّد من تطبيق تعسفي للفصل 80 من دستور سنة 2014 على محكمة دستورية مستقلّة ونزيهة وغير موالية للسلطة التنفيذية ستقرّ بعدم دستوريته، وما من شكّ أيضا في ان عرض دستور 2022 على المحكمة نفسها سينتهي إلى إسقاطه، لأنه يؤسّس لحكم رئاسوي استبدادي، وليس حكما رئاسيا ديمقراطيا.
لقد خاض الرئيس سعيّد معركة المحكمة الدستورية مع مجلس النواب السابق، وحوّلها إلى أم المعارك السياسية، مشيعا أنه يلتزم الدستور ويطبّقه بحذافيره، والحال أن الخشية من استعمال تلك المحكمة لإزاحته من كرسي الرئاسة هي المحرّك الرئيسي في معركته. ولمّا استقرّ له الأمر بعد 2021 لا يزال حال المحكمة الدستورية على ما هو عليه قبل ذلك التاريخ مجردّ نص مركون في دستورٍ عتيق لا يشبه عصره رغم حداثة كتابته.
صرّح الرئيس سعيّد يوم 17 أغسطس/ آب 2022 على هامش نشر دستوره في "الرائد الرسمي" بأنه سيتم إرساء المحكمة الدستورية في أقرب الآجال، وبعد مرور سنة على ذلك التصريح، ورغم السهولة الإجرائية لإرساء هذا الهيكل الدستوري وانطلاق عمله، فهو يتكوّن من قضاة بالصفة فقط، فإن هذه المحكمة تأبى الانبعاث، إذ لم تُرصد لها موازنة مالية في ميزانية الدولة لسنتي 2022 و2023، ولم يتم إعداد مشروع قانون جديد من الرئيس أو حكومته يتم عرضه على مجلس النواب لتنظيم عملها. ومن الأرجح أن تكون خشية الرئيس من هذه المحكمة لا تزال قائمة كما كانت أوّل مرة في الأيام الخوالي 2019-2021، هذا زيادة على أن الرئيس لا يتمثّل حجم خطورة غيابها على الدولة والمجتمع في تونس في صورة حدوث فراغ في مؤسّسة الرئاسة ينتج عن العجز أو الوفاة أو غيرها من الأسباب المشابهة.