لماذا ترفض موسكو الحوار مع كييف؟
بينما شهدت روسيا خلال الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) ارتفاعاً شاهقاً، وبغير انقطاع، في مؤشر الإصابات والوفيات بوباء كورونا، وعلى نحو ظل يفقد فيه هذا البلد زهاء 1200 ضحية يومياً متأثرين بالإصابة بالوباء، فإن الفترة ذاتها شهدت تحشيدا للقوات الروسية قدّر بنحو مئة ألف جندي على الحدود مع أوكرانيا التي تعرف بدورها ارتفاعاً متزايدا في معدل الإصابات والوفيات بالوباء، وذلك كله قبل ظهور المخاوف من انتشار الفيروس المتحوّر جنوب الأفريقي في شتى أنحاء العالم. والبادي أن الحرب ضد الفيروس، ومن أجل حق البشر في الحياة، لا تستحق أن تنال اهتماما استثنائيا، أو أولوية متميزة، مقارنة بالطموحات إلى فرض الهيمنة والنفوذ وتمجيد القوة العسكرية واتخاذ هذه وحدها تقريباً مرتقىً للصعود على مدارج العظمة القومية. وقد سبق للجارة "الصغيرة" أوكرانيا أن نالت استقلالها، مثل بقية دول المنظومة السوفياتية في مطلع تسعينيات القرن الماضي، ولطالما أنكرت موسكو، في البدء، فيما هي تتحوّل إلى نظام جديد، حق هذه الدول في الاستقلال، قبل أن تعترف سياسيا ودبلوماسيا، وعلى مضض شديد، بهذه التحولات. وقد سعت موسكو، بعدئذ، إلى الإبقاء على نفوذها داخل هذه الدول، سواء من خلال أنظمة الحكم فيها أو من خلال الدفع نحو انفصال أجزاء من تلك الدول، واتخاذ تلك الأراضي نقطة انطلاق لمشاغلة الحكومات المركزية، وفي الوقت نفسه، جعلها مواطئ قدم للنفوذ الروسي، وذلك بالإفادة من الإرث اللغوي الروسي ووجود أعداد من الروس. حدث ذلك مع جورجيا بانفصال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية بدعم روسي في العام 2008، وبغير اعتراف دولي يُذكر، وحدث في شرق أوكرانيا في العام 2014، وبعد سبع سنواتٍ من حربٍ داخليةٍ أودت بـ14 ألف شخص، وشلّت مركز الصناعة في هذا البلد. وقد تزامن ذلك مع موجة احتجاجية ساخطة، أطاحت الرئيس فيكتور يانوكوفيتش، المُقرّب من موسكو، والذي كان يرفض نسج روابط متينة مع الفضاء الأوروبي لأوكرانيا، وهو ما رفع من حفيظة موسكو التي لا تُمانع في استقلال أوكرانيا وأمثالها، شرط أن يكون على رأس الحكم زعماء سلسي الانقياد لموسكو. وهو ما أدّى أيضا إلى سيطرة موسكو على جزيرة القرم، وهذه تابعة لأوكرانيا، أما مواطنوها وساكنوها فهم في الأصل من التتار الذين عمل جوزف ستالين في العهد السوفياتي على تشتيتهم من موطنهم، وتوزيعها على "عمال وفلاحين" لا ينتسبون للقرم.
لا يتوانى مسؤولون في كييف من التحذير من غزوٍ قد يتم "في غمضة عين" لبلادهم. بينما تُنكر موسكو هذا الأمر
هكذا، ومنذ بضعة أسابيع، تشتد التحذيرات المتبادلة بين موسكو وعواصم أوروبية وغربية من مغبّة غزو هذا البلد، فيما تردّ موسكو بأنها لا تفعل شيئا سوى التحرّك داخل اراضيها، وهو حقٌّ لا يقبل النقاش كما تقول. علما أن القواعد المرعيّة للأمن والسلام الدولي تقرّ بأن التحشيد على حدود بلد آخر يُظهر نوايا غير سلمية، واستعدادات تستحق التحذير منها ومن تطوّراتها اللاحقة. ولذلك، لا يتوانى مسؤولون في كييف من التحذير من غزوٍ قد يتم "في غمضة عين" لبلادهم. بينما تُنكر موسكو هذا الأمر، وتعتبر أن من العادي أن تحتشد قواتٌ مع تجهيزاتها ومعدّاتها وبكثافة على حدود بلد آخر هو أوكرانيا. والرسالة هي العمل على حرمان هذا البلد (زهاء 44 مليون نسمة) من الشعور بالأمن والاستقرار، ومنعه من التفكير بتقوية روابطه مع الامتداد الأوروبي، أو الإفادة من مظلة حلف شمال الأطلسي (الناتو). أما البديل الروسي عن ذلك فهو قيام نظام حكم في كييف، يجعل من الأولويات والأجندة الروسية أولوياتٍ وأجندةً له، كما هو الحال مع جمهورية بيلاروسيا التي تقمع المحتجين فيها بلا رحمة، وتُتاجر بمعاناة اللاجئين.. وكان لافتا تصريح رئيس بيلاروسيا، ألكسندر لوكاشينكو، قبل أيام، إذا وقعت حرب روسية أوكرانية فالجميع يعرف أن مينسك سوف تصطف إلى جانب موسكو. بل أعلن الرجل عن استعداده لاستقبال أسلحة نووية روسية على أراضي بلاده. ويُذكر هنا أن اتفاقيةً تحمل اسم عاصمة بيلاروسيا جرى توقيعها في العام 2015، وتنصّ، بين ما تنص عليه، على إجراء حوار روسي أوكراني. ومنذ ذلك التاريخ، لا تبدي موسكو أية حماسة للحوار مع كييف، ربما للشعور بأن موسكو تفاوض واشنطن، وفي ظروفٍ ما، قد تتباحث مع باريس ولندن وبرلين، أما مع بلد صغير مجاور، مثل أوكرانيا، فذلك أمرٌ غير مقبول ولا يستحق التفكير به. وقد سعت أنقرة، منذ سنوات وحتى الأسابيع الأخيرة، إلى التباحث مع موسكو، من أجل نزع فتيل التوتر، غير أن موسكو ترفض عمليا التوسط التركي، على الرغم من أن أنقرة تتخذ مواقف تراعي موسكو إلى حد بعيد، من قبيل الإعلان عن رفض توقيع عقوبات على موسكو، وهو ما عبّر عنه وزير الخارجية، تشاويش أوغلو، في لقاء وزاري لحلف الناتو، أخيرا، في لاتفيا. وإذ تتذرّع موسكو بأن الغرب يسعى إلى الزحف أوروبيا وأميركيا قريبا من المجال الروسي، فإن موسكو ترفض، في الوقت ذاته، منح كييف أي درجة من درجات الأمان، كما ترفض أن يقوّي هذا البلد من مستوى وضعه الدفاعي، بل إنها ترفض مجرّد الحوار مع كييف.
من حق أوكرانيا أن تنعم بالأمن بعيدا عن الضغوط والتهديدات، وأن تستعيد وحدة أراضيها، مع أهمية السعي إلى نزع الذرائع الروسية
وعن المسألة هذه، يجدر التوقف قليلا عند إشارة وردت في موقع آر تي الروسي، فقد نسب الموقع إلى مقالٍ نشر في موقع روسي آخر، هو "غازيتا رو" قول ممثل شبه جزيرة القرم في لجنة مجلس الاتحاد للشؤون الدولية، سيرغي تسيكوف، "إن أوكرانيا وروسيا يجب أن تتفاوضا مباشرة، كونهما "دولتين شقيقتين"، من دون أي وسطاء". والحديث هنا لممثل القرم الخاضعة لروسيا. إذ يعكس الرجل هنا ما يدور في أذهان المسؤولين الروس، بأنه لا بأس بمفاوضات بين شقيقين بغير وسطاء، أي بغير شهود ، بعيدا عن الأمم المتحدة أو أي طرف دولي آخر، وبعيداً عن الأضواء. وفي هذه الحالة، لا يحتاج المرء إلى قدر كبير من الخيال، كي يتصوّر أن الشقيق الصغير ينبغي أن يمتثل لكل ما يرتضيه الشقيق الأكبر.
ولعل التحذيرات الغربية الشديدة، بما في ذلك من ألمانيا، أقرب الأطراف الأوروبية إلى موسكو، تقلل من فرص اجتياح روسي لأوكرانيا، غير أنه يبقى من حق هذا البلد أن ينعم بالأمن بعيدا عن الضغوط والتهديدات، وأن يستعيد وحدة أراضيه، مع أهمية السعي إلى نزع الذرائع الروسية، والبرهنة على أن روسيا لن تكون مستهدفة في جميع الحالات راهناً ومستقبلاً من أي حلفٍ أو دولة.