لعنة التمويل الغربي للمجتمع المدني العربي
بعد هجوم 7 أكتوبر الذي قامت به حركة المقاومة الإسلامية (حماس) على منطقة غلاف غزّة، والدعم الغربي الحاشد والأعمى لدولة إسرائيل وهجومها الدموي الذي تلاه والمستمرّ، مخلّفًا عشرات الألوف من الشهداء المدنيين، بدأت المنظمات الأهلية العربية، وخصوصاً التي تنشط في مجال حقوق الإنسان، تتعرّض لضغوط كبرى من الدول والمنظمّات الغربية المانحة، وقد وصل بعضها إلى إيقاف تامّ لبرامج الدعم التي استفادت وتستفيد منها هذه المنظمات العربية منذ عشرات السنين، في ظل التضييق على أنشطتها محلياً، ومنعها من القيام بحملات تحسيس وجذب لرؤوس المال المحلية. وتبريراً لهذه المواقف العقابية من الجهات الغربية المانحة، راوحت الأسباب بين اتهام عاملين في هذه المنظمات بالمشاركة في نقل بعض الوقائع والأحداث الدموية من غزّة على الصفحات الشخصية في وسائل التواصل، أو توقيع المسؤولين عنها على عرائض محلّية أو إقليمية أو دولية، تدين العقاب الجماعي الهمجي الواقع بحقّ المدنيين الفلسطينيين، أو تجرّؤها على وصف ما يحدث بأنه عملية إبادة جماعية، أو حتى إنها تشير الى مسؤولية الاحتلال الإسرائيلي القائم منذ 1948 عن كل مآسي المنطقة، أو إنها تصف النظام السياسي الإسرائيلي بنظام الفصل العنصري.
ولقد تميّزت الجهات المانحة الألمانية، التي تساهم تقليديًا بدعمها منظمات حقوقية عربية، وخصوصًا غداة انفجار ثورات الربيع العربي سنة 2011، بتبنّي المواقف الأكثر وقاحة أخلاقياً وسياسياً تجاه من تتعامل معهم من المستفيدين العرب. إذ إنه، تحت وطأة عقدة الذنب الألمانية بالمسؤولية عن الهولوكوست الذي أوقعته الحكومة النازية باليهود في أوروبا، التي ما فتئت تُصاحب الدولة والمجتمع، تُمارس الجهات المانحة الألمانية، مهما تعدّدت مشاربها السياسية، نوعاً من القمع الفكري وفرض خطابٍ سياسي محدّد يلتزم من خلاله مجمل المستفيدين من دعمها المالي قاموس مفردات تصدره "الشرطة الفكرية" العاملة فيها، فمن المفروض إدانة "حماس" خطيًا مع كتابة العبارات المناسبة لتوصيف طبيعتها "الإرهابية" وعملياتها "الوحشية" وتهديدها السلم الإقليمي وتحريضها على كراهية الدين اليهودي. وتسعى هذه التعليمات لقطع الطريق أمام أية محاولة، ولو متواضعة وخجولة، للبحث في أسباب ما حصل واسترجاع التاريخين، القريب والمتوسط، ووضع الأمور في إطار السياق التاريخ والسياسي والاجتماعي والأمني القائم في هذه المنطقة.
تميّزت الجهات المانحة الألمانية، بتبنّي المواقف الأكثر وقاحة أخلاقياً وسياسياً تجاه من تتعامل معهم من المستفيدين العرب
النموذج الألماني الصارخ خوفأً وتحيُّزأً بالتعامل مع هذا الملف، والذي نجم عنه شعور عارم لدى المستفيدين العرب من التمويل الغربي عموماً، والألماني خصوصاً، بترسّخ تحيّز واضح وبظلم متعمّد وبتناقض قيمي، تبعته دول أخرى مانحة ومؤثرة، كالسويد وسويسرا والدنمارك. كذلك وجّهت مؤسساتٌ مانحة أميركية كبرى رسائل إلى من يتعامل معها في المنطقة العربية مليئة بالتحذيرات والتنبيهات والتوجيهات، وكأنها ترفُض مبدأ الشراكة والتبادلية وتلجأ إلى التأسيس لمبدأ الخضوع والتبعية.
وبعد أن كانت المنظمات المدنية العربية، التي تمارس نشاطاتها، منذ انبثاقها، في ظروف صعبة للغاية، مرتبطة أساساً بتأميم المشهد العام والتضييق على الحريات، في ظلّ الأنظمة الحاكمة التي تتميّز بكرهها البنيوي دور المجتمع المدني، تُتهم ظلماً وبهتاناً من أسياد الاستبداد المحلي بالتبعية لجهاتٍ خارجية مُغرِضة تُملي عليها شروطها وثقافتها وخطابها، صارت اليوم ضحية مزدوجة لمستبدٍ داخلي وقامعٍ خارجي يشترط خضوعها الكامل لخياراته السياسية ليستمر في دعمها. تعرّي هذه الأساليب خطاب حقوق الإنسان ونشر ثقافته، كما خطاب السلام وتعزيز ركائزه اللذين تُبشّر بهما الحكومات كما المنظمات الغربية.
تتعرّض المنظمات الأهلية العربية، وخصوصاً التي تنشط في حقوق الإنسان، لضغوط كبرى
اليوم، بعد حصول ما حصل، هل سيحاول المجتمع المدني العربي البحث عن أنجح الطرق للتنظّم بجرأة وفاعلية ليكون قادراً على فرض أجندته الوطنية تجاه المانحين، مستخدماً الموقف الجماعي ووسائل الإعلام وفضح الأساليب الملتوية المستخدمة ضدّه، أو على أن يتعاضد لمحاولة التوجّه إلى مانحين عرب، على صعوبة هذا التوجّه، فمفهوم المسؤولية الاجتماعية لدى القادرين على أن يكونوا "مانحين" عربًا، ضعيف للغاية، ومحصورٌ بالدعم الإنساني في أفضل تعبيراته. إضافة إلى ترسّخ ثقافة التبعية في ذهنية المانح الذي يبحث عن ولاءاتٍ، لا عن تحالفات.
في مناخ الخضوع الغربي الراهن لمحاباة سياسة إسرائيل بقياداتها المتطرّفة، وفي اليوم التالي لصدور قرار محكمة العدل الدولية في 26 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، الذي تدعو فيه المحكمة دولة إسرائيل إلى الامتناع عن ارتكاب إبادة جماعية في غزّة، اتهمت إسرائيل وكالة أونروا الأممية المعنية بغوث اللاجئين الفلسطينيين وتشغيلهم منذ قيامها سنة 1949، بأن 12 من موظفيها الـ 13000 في غزّة الذين قُتل 130 منهم في أثناء العدوان، أعضاء في حركة حماس وشاركوا في أحداث 7 أكتوبر بشكل مباشر أو غير مباشر، وهو اتهام يدخل في إطار استراتيجية إسرائيلية تسعى لمحاربتها والقضاء عليها بهدف تأكيد أسطورة غياب الإنسان الفلسطيني وليس تغييبه من الاحتلال والمذابح والتهجير. وانطلاقًا من نفي وجود مسألة لاجئين، تسعى العقيدة الصهيونية لإثبات قيام الدولة على أرضٍ لا شعب فيها.
إثر هذا الاتهام غير المثبت، علّقت الدول المانحة تمويلها الوكالة، معرّضة حيوات ملايين المدنيين للخطر. والسؤال المطروح: إن كان أثرياء العرب يخشون المجتمعات المدنية والحقوقية، فيعزفون عن تمويلها غير المشروط، فهل هم أيضاً عاجزون عن تمويل إغاثة الملهوف؟