لبنان وحروبه غير الأهليّة
قال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق، سعد الحريري، في خطاب إعلانه تعليق المشاركة في الحياة السّياسيّة اللّبنانية، إنّ روح الحريريّة تتمثّل بعنوانَي منع الحرب الأهليّة وتأمين الرّفاه للمواطنين، واعتبر أنه نجح في الأوّل، بينما فشل في تحقيق الثّاني. وهو ينكر، في خطابه الّذي شاءه مشبعاً بالدّراميّة، أنّه جاء إلى السلطة نتيجة حربٍ أهليّة، كان اغتيال والده أبرز فصولها. والحرب التي ينسب إلى نفسه الفضل في منعها مستمرّة، وأبرز دليل أنّ معناها وروحها وسياقاتها ونتائجها تصنع الشّرعيات، وتؤسّس سلطاتٍ ارتضت وضعه في الواجهة كإعلان لنهاية هذه الشرعيات، بينما تحكم باسمها ومن خلالها.
ارتضى الحريري الذي لم يكن بطل حرب أهلية أن يكون خادم أبطالها، واليتيم على مائدة لئامها الكثر الذين اجتهد أن يكون منهم، واعتقد أنّ دخوله نادي الفساد والتّغطية عليه سيجعله أصيلاً في هذا المجال، ويسمح بمنحه الامتيازات التي تُعطى لفرسان الحرب الأهليّة الأصليّين. والنتيجة كانت محسومة سلفاً، ولم يكن الخطاب أخيراً سوى تأكيد لمؤكّد، ولكنّ الجديد يكمن في تغيير طبيعة الحرب وتوسّع دائرتها لتصبح حرباً عربيّة دوليّة على الحزب الذي أمسك زمام الأمور في البلد، وذلك لأنّه لم يُبق انتصاره ضمن معادلات الحروب الأهليّة المحدودة، وصار جزءاً من حربٍ إقليميّة ودوليّة تتجاوز البلد.
الاستثمار في الخراب اللبناني بات مفتوحاً على مصراعيه
سقطت كل الحدود مع إسقاط حزب الله حدود الحرب الأهليّة المعترف له بها، والّتي كانت تؤمّن له سلطة على البلد وناسه، تشتغل ضمن سلةٍ من التّوازنات تلحظ الحد الأدنى من الأمن والسّياسة والاستقرار. وجاء عزوف الحريري كإعلان لنهاية حقبة كان لبنان فيها محميّة طبيعيّة، يمكن صيانتها بقدر ما تبقى كلفة هذه الصيانة محصورةً في حدود البلد، وكان ممنوعاً أن يشكّل أي طرفٍ أو تيار حالة تتجاوز هذه الحدود، وهو ما فهمه بشكل واضح رفيق الحريري، بينما لم يستوعبه وريثه سعد، وكذلك لم يستوعبه حزب الله. وذلك كله يعني أنّ الدّور المتعاظم لحزب الله في الإقليم وانتشاره الدولي لا يعطيه مناعة مفتوحة، بل يقصّر من عمره الافتراضي الذي بدأ العدّ العكسي له مع دخوله في الحرب السّورية، وها هو يكتمل الآن مع دوره في الحرب اليمنيّة.
يُبنى مصير لبنان والمواقف منه انطلاقاً من هذا المناخ، وتتوالى الإشارات المؤكّدة لاكتماله ونضجه في الرّسالة التي ساقها وزير الخارجية الكويتي، أحمد ناصر المحمد الصباح، والّتي تحمل، في طيّاتها، مطالبة بتطبيق جملة من القرارات الدّوليّة، تتضمّن سحب سلاح المليشيات، وإجراء إصلاحات جوهرية في بنية الاقتصاد والإدارة، واعتماد سياسة النّأي بالنّفس. كذلك تقول أجواء التّفاوض الأميركي الإيراني، والأخبار عن عدم ممانعة أميركا الانتقال إلى التّفاوض المباشر مع الإيرانيين، إنّ هناك طبخة قد شارفت على النضج، وإنّ موضوع حزب الله والمليشيات الإيرانيّة ليس مدرجاً فيها، بل متروكٌ لتفاوض لاحق مع الروس بشأن ملفاتٍ تتعلق بالنّفوذ في المنطقة والعالم.
سقطت كل الحدود مع إسقاط حزب الله حدود الحرب الأهليّة المعترف له بها
وفي هذا الإطار، تبرز مساعي روسيا لتمكين نفوذها في سورية، والسّيطرة على مطار دمشق بعد سيطرتها على مرفأ اللاذقية، والأخبار المتلاحقة عن شروع حزب الله بتنظيف المنطقة الحدوديّة بين لبنان وسورية لمسافة عشرة كيلومترات من نفوذ النّظام الأسدي، ما يشي بأن الأمور ذاهبة إلى صدام بين جماعتي الأسد وإيران، سيكون لبنان ميدانه وساحته. ولعلّ الإشارات اللّبنانيّة في هذا الصدد تتجلى في تموضع أبرز حلفاء الأسد، سليمان فرنجيّة، في موقع رفض إقامة تحالف انتخابي برعاية حزب الله بينه وبين التّيار الوطنيّ الحر، الذي يبحث عن تعويم ما من مدخل التّفاهم مع النّظام السّوريّ، بعد أن بدا له أنّ لعب ورقة إيران قد لا يصبّ في مصلحته في المقبل من الأيام.
والحال أن لا أحد يريد السيطرة على البلد وتحمّل مسؤوليّة هذه السيطرة، بل يسعى الجميع للاستفادة من الاضطراب، ما يؤكّد أنّه فقد وزنه وصيغته، وتحوّل إلى عنوان لتصدير الأزمات والمشكلات.
الاستثمار في خرابه بات مفتوحاً على مصراعيه، انعكاساً لما آلت إليه الأمور فيه، حيث إنه لم يعد قابلاً للسياسة والفرص الّتي تتيحها ولا لأيٍّ من أنواع الضّبط، بل تحوّل إلى بؤرة فساد ومخزن صواريخ ومخدّرات. من هنا، فإن إجماعاً عربيّاً محروساً بموقف دولي قد نضج بضرورة إنهاء ما تسمّى الحالة اللّبنانيّة، بغضّ النظرعن مفاعيل هذا القرار على عموم اللّبنانيّين، فإذا كان العرب يلومون اللّبنانيّين على عدم تصدّيهم لحزب الله، فإن المرحلة الجديدة تشهد عدم ممانعتهم تدميره على رؤوسهم ورأس حزب الله.
لا أحد يريد أن يغنّي أو يبكي بلداً يصدّر القتلة والكبتاغون والصّواريخ، بل يريد الجميع لجم خطره ونسيانه
بالنسبة إلى العرب والعالم، بات لبنان بلداً سابقاً، وقد تبدأ مفاعيل إعلان سحبه من التّداول فكرةً ومفهوماً ووهماً وأمناً واقتصاداً وسياسةً من ردّة الفعل المتوقعة على عجزه عن إعلان موقف واضح من الورقة التي جاء بها الوزير الكويتي. انتهى زمن البلد، وليس فقط زمن سعد الحريري. حروب إعادة رسم الخرائط لن تسمح لذلك البلد الذي خرج من حدود حربه الأهليّة أن يعود إليها، وإلى ما أفرزته. والأرجح أن المرحلة المقبلة ستنتج حالة فوضى عارمة تستجر حالة من التّوحش العام يصعب تحديدها وتوصيفها.
يمكن أن يُترك لطوائف لبنان وأحزابه وتياراته إدارة شؤون حروبهم الخاصة، ولكن لن يُسمح لأيّ طرف لبنانيّ باستثمار أيّ تفجير في الدّاخل في التّفاوض على موقع في خارجٍ فقد لبنان كلّ حضوره فيه، حتى ذلك المتعلق بالعاطفة والغنائيّات والرّثاء. لا أحد يريد أن يغنّي أو يبكي بلداً يصدّر القتلة والكبتاغون والصّواريخ، بل يريد الجميع لجم خطره ونسيانه، إلى حين يُعاد بناؤه في أجل غير مسمّى.