لبنان .. أشلاء بين حرب تموز وتفجير المرفأ
"نهضتُ واقتربتُ من النافذة فرأيت ما يشبه الفطر الهائل فوق المدينة. كان الانفجار كبيراً، عموداً يرتقي نحو السماء (...) تجمّعٌ للسموم بدت معه المدينة كأنّها تلفظ كلّ ما في أحشائها إلى الخارج". هكذا وصف مبدع الرواية الواقعية جبّور الدويهي، في روايته التي صدرت قبل أسابيع من رحيله، قبل أيام، لحظات الانفجار المزلزل الذي دمر مرفأ بيروت مساء 4 أغسطس/ آب 2020، ودمر معه نصف العاصمة، وحصد 206 ضحايا وآلاف الجرحى والمعوقين. وقد عنون الدويهي روايته "سمٌّ في الهواء"، كأنّه أراد أن يعبّر عن اختناق حقيقي من "تجمّع السموم" التي لوّثت فضاء المدينة، وعن اختناق الفضاء السياسي بفعل التلوّث الذي عمّمته الطبقة السياسية جرّاء فسادها وجشعها ولامسؤوليتها وعجزها ووقاحتها وماكيافيليتها وإجرامها أو تواطؤها وسكوتها على القتلة والمجرمين.
سنةٌ مرّت على جريمة ثالث أكبر انفجار في العالم، ولا رواية رسمية عما حصل، ولا من متهم حقيقي أو فاعل أو محرّض تم التحقيق معه من بين المسؤولين المشتبه بهم، والذين تم استدعاؤهم، بدءاً من رئيس الحكومة إلى نواب حاليين ووزراء سابقين ومسؤولين أمنيين كبار تجرأ المحقّق العدلي على طلب مثولهم للتحقيق، فهم يتحايلون على القانون، ويجتهدون في تفسير الدستور والقانون، ويمارسون ضغوطاً قوية على القاضي، لدفعه إلى التنحّي، ويتضامنون بطريقة مافياوية في ما بينهم، بغض النظر عن خلافاتهم أو انتماءاتهم السياسية والحزبية. إنّهم يدافعون عن أنفسهم بأسنانهم وأظافرهم! أكثر من مائتي ضحية: هذا في مكان عمله، وذاك خلال مروره من محيط المرفأ، وذلك في منزله، ورابع حصده الانفجار وهو يعالَج في المستشفى، وسيدة في لحظة وضع مولودها، وآخر هرع للمساعدة والإنقاذ! ما ذنب كلّ هؤلاء المسالمين بالعشرات والمئات؛ ضحايا ومصابين؟ إنّها جريمة موصوفة تتكشف تفاصيلها يوماً بعد يوم، لكنّ خيوطها ما زالت غامضة، مُحاطة بالكتمان، وغامض بالأخص حجم مواد نيترات الأمونيوم التي أدخلت بطريقة ملتوية ومشبوهة إلى المرفأ بكمية هائلة، بلغت 2750 طناً ولم يبقَ منها شيء، علماً أنّ آخر تقرير لمكتب التحقيق الفيدرالي (FBI) الأميركي يفيد بأنّ خُمس هذه الكمية فقط تم استخدامه في عملية التفجير، والكمية الأكبر تم تزويد النظام السوري بها (بحسب أكثر من مصدر)، الذي راح يستعملها براميل متفجّرة ضد الشعب السوري منذ خريف 2013. وفي هذا السياق، بدا لافتاً ومفاجئاً طلب المحقق العدلي استدعاء مدير الأمن العام، اللواء عباس إبراهيم، متهَماً وليس شاهداً، على خلفية تورّطه بتغطية شحن الأمونيوم وتأمينه إلى سورية، ما أثار غضب معظم السياسيين، خصوصاً حركة أمل وحزب الله، باعتبار أنّ إبراهيم فوق الشبهات، يكلَّف بالمهمات الصعبة، والوريث المحتمل لنبيه برّي في رئاسة مجلس النواب، فما كان من وزير الداخلية إلّا أن رفض إعطاء الإذن بمثول إبراهيم أمام القاضي!
الجميع في سلة واحدة، هي سلة السلطة ونهب الدولة وانتهاك السيادة وهيمنة السلاح على قرار الدولة والارتهان للخارج
حلم اللبنانيون عام 2005 بانطلاقة جديدة في حياتهم، عنوانها التحرّر من نير نظام البعث السوري ووصايته واستبداده، وهو الذي جثم على صدورهم نحو ثلاثين سنة، ورأوا فيها محطّة مفصلية في استعادة حريتهم واستقلالهم واستعادة الدولة، بعدما ثاروا ونزلوا إلى الشوارع بمئات الآلاف، احتجاجاً على اغتيال رئيس حكومتهم الأسبق رفيق الحريري، وأجبروا بشار الأسد على إخراج جيشه من لبنان. إلّا أنّ المسألة لم تنتهِ باستشهاد الحريري، بل تبعته سلسلة اغتيالات لنواب وسياسيين وصحافيين ومثقفين وقادة رأي خلال أعوام قليلة، آخرهم وزير المال الأسبق ورجل الدولة وصاحب العقل النيّر محمد شطح، نهاية عام 2013. غير أنّ كلّ هذه التضحيات لم تؤسّس لمرحلة جديدة ولمسار ديمقراطي سليم، ولا لثقافة حوار وتقبل الاختلاف، وإنّما مهدت لسيطرة جديدة من نوع آخر، هي سيطرة السلاح على الحياة السياسية بحلول حزب الله محل الوصاية السورية، على الرغم من خسارة هذا الفريق الانتخابات النيابية في دورتين متتاليتين 2005 و2009، إذ لجأ في صيف 2006 إلى افتعال حرب مع إسرائيل، على الرغم من الالتزام الذي قطعه أمين عام حزب الله حسن نصر الله على نفسه أمام جميع القادة السياسيين الجالسين على طاولة حوار يومذاك، بأنّه سيسعى جاهداً لإبقاء جبهة الجنوب هادئة خلال ذلك الصيف، وإذ به يشعل الحرب، وتسارع إسرائيل إلى الرد بشن هجوم جوي صاعق، وتدمر الجسور والبنى التحتية، وتقتل نحو ألفي مدني، ويتدفق مئات آلاف النازحين من الجنوب نحو بيروت. وبعد 33 يوماً من الحرب وسقوط الضحايا المدنيين والدمار والخراب، يخرج نصر الله على إحدى شاشات التلفزة قائلاً: "لو كنت أعلم أنّ ردة فعل إسرائيل...". وبعدها انطلقت خطة تعطيل مشروع إعادة بناء الدولة، من خلال تفعيل العجلة الاقتصادية وبلوغ معدل النمو السنوي 7% و8% في عامي 2007 و2008، وتفعيل الممارسة الديمقراطية، وتحسين التمثيل عبر وضع قانون انتخابي أكثر عدالة، وكلّها خطوات قضى عليها حزب الله باحتلاله الوسط التجاري لبيروت سنة ونصف السنة، بغرض منع إنشاء المحكمة الدولية الخاصة في جريمة اغتيال الحريري، ولجوئه بالتالي إلى الحسم العسكري في مايو/ أيار 2008 عبر غزوه غربي العاصمة، ومحاولة غزو الجبل ووقوع 70 قتيلاً، ما مكّنه من فرض ما يعرف بـ"الثلث المعطل" في تسوية الدوحة (مايو/ أيار 2008)، أي الحصول على ثلث عدد الوزراء داخل الحكومة الذي يعطيه حق النقض (فيتو) على القرارات المهمة. مع ذلك، لم يتمكن هو وحليفاه، التيار العوني وحركة أمل، من الحصول على الأكثرية في انتخابات 2009. وفي عام 2013، تمكن من فرض تأجيل الانتخابات، لأنّه لم يكن واثقاً من الفوز بالأكثرية. أما المحطة الأهم على طريق إعادة البلد إلى الوراء وتخريب ما تم إنجازه بعد الانسحاب السوري هو تعطيل حزب الله انتخاب رئيس الجمهورية، طالما أنّه غير قادر على فرض ميشال عون رئيساً، وبقيت الرئاسة شاغرة سنتين ونصف السنة حتى رضخ سعد الحريري، وعقد صفقة في نهاية 2016 مع حزب الله وعون، حملت الأخير إلى الرئاسة، وأعادته هو إلى رئاسة الحكومة.
سنة على جريمة ثالث أكبر انفجار في العالم، ولا رواية رسمية عما حصل، ولا من متهم حقيقي أو فاعل أو محرّض تم التحقيق معه
عام 2017 كان بداية الانهيار الكبير بانفراط عقد التحالف السيادي الذي كان يعرف بـ"قوى 14 آذار" وتبخّر الحلم الكبير، وانزلق اللبنانيون بسرعة نحو الهاوية. أصبح الأخصام شركاء في الصفقات، وبات الجميع في سلة واحدة، هي سلة السلطة ونهب الدولة وانتهاك السيادة وهيمنة السلاح على قرار الدولة والارتهان للخارج. وسادت معادلة "السلاح مقابل الفساد" إلى أن أصبح الجميع غارقاً في الفساد و..."غطّيني لغطيك"! حاول الحريري الاستعانة بأصدقاء في الخارج، في مقدمتهم فرنسا، فكان الجواب: جاهزون للمساعدة شرط إجراء إصلاحات جذرية وبنيوية في الدولة ومؤسساتها واقتصادها... لكنّ شركاءه المضاربون لم يتجاوبوا معه، إذ إنّ أيّ إصلاح فعلي يعني انهيار المنظومة الحاكمة برمتها، فكان الانفجار الكبير في 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019 الذي عمّ كلّ المناطق اللبنانية، ورفع شعار "كلّن يعني كلّن" أي إسقاط كلّ أركان السلطة. وكان أول من تصدّى لهذه الثورة الشعبية هو حزب الله، الذي انبرى، في اليوم الثالث، لاتهام الشباب المنتفض في الساحات بأنّهم مأجورون يحرّكهم الخارج والسفارات، ووقف نصر الله مدافعاً عن النظام، ومهدّداً بأنّه لن يسمح لا باستقالة الحكومة ولا بإسقاط رئيس الجمهورية. إلّا أنّ الحريري، الذي شكل حكومتين مع عون، خذل نصر الله واضطر للاستقالة، أملاً بأن تعيده الانتفاضة على حصان أبيض إلى السلطة، لكنّ عون كان له بالمرصاد، تحقيقاً لرغبات حزب الله، فجيء بحسّان دياب، على رأس حكومة من اختصاصيين، لا اختصاص لهم، من أجل إجهاض الانتفاضة وإدارة الأزمة من ورائهم.
في هذا الوقت، كانت أجهزة محور حزب الله - الأسد ناشطة وراء الكواليس منذ عام 2013 على مخطط استحضار نيترات الأمونيوم إلى مرفأ بيروت وتخزينها هناك، بغرض شحنها سراً إلى دمشق، فهل كان شركاؤهم يدرون بذلك وتواطأوا، أم سكتوا، أم أهملوا، أم أنّ المياه كانت تجري من تحت أقدام بعض منهم؟ استدعاءات المحقق تفيد بأنّ كثيرين منهم كانوا يعلمون... مع ذلك، استمرّت لعبة السلطة، وأصرّ الحريري على العودة إلى رئاسة الحكومة، فلبّى محور الممانعة رغبته، وتم تكليفه مجدداً، وتُرك تسعة أشهر يدور في دوامة الحلقة المفرغة إلى أن اضطر قبل أسبوعين إلى الاعتذار، ليعلن أخيراً أنّه نادم على التسوية التي قضت بانتخاب عون رئيساً في نهاية 2016! وخلال هذه السنة التي مضت على استقالة دياب وتكليف الحريري ومحاولة نسف التحقيق في جريمة المرفأ، سقط ضحايا جدد أضيفوا إلى 206 ضحايا، وهم أقرب إلى شهود تمت تصفيتهم، أولهم مصور كان في المرفأ لحظة وقوع الانفجار، وثانيهم ضابط تقاعد قبل أسابيع من عمله في المرفأ، وثالث هو الناشط السياسي والمثقف والإعلامي لقمان سليم، الذي اغتيل في فبراير/ شباط الماضي لأنّه كشف معلومات تؤكد فرضية أنّ الأمونيوم متفجرات لبراميل الأسد. وانتقلت الكرة الآن إلى ملعب آخر من أركان المنظومة هو نجيب ميقاتي، فهل سيتمكّن من كسب الجولة أم سيطيحه الفريق الإيراني الأقوى داخل هذه المنظومة؟