لا يُلدغ المقاوِم من الهدنة مرّتين
قالت المقاومة وتقول، بوضوح، إن زمن الهدن انتهى، ويقول الشعب الفلسطيني في غزّة: المقاومة منا ونحن من المقاومة، ... فيما يصرّ طيفٌ من الوسطاء ويردّد الإعلام الصهيوني أن هدنة أخرى مؤقّتة في الطريق.
لا ينطلق المقاومون والمرابطون تحت قصف الإجرام الصهيوني في رفضهم منطق الهدنة المؤقّتة التي تسعى إليها إسرائيل من تعنّت أو عنتريات، أو استعذاب القتل اليومي ونبش الكلاب المسعورة قبور الشهداء ونهش جثثهم، ليس دافعهم لرفض وقفٍ مؤقّتٍ للقتال الرغبة في الموت، بل هي إرادة الحياة والبقاء دافعهم، بعد أن علّمتهم الهدنة المؤقتة الأولى أن المنطق الأميركي الصهيوني في هذه الأثناء هو "اقتُل وفاوض" أو بتوصيفٍ أكثر دقّة "فاوض لتقتل أكثر"، وهو منطقٌ يتجاوز في بشاعته وانحطاطه منطق واشنطن القديم الذي استدرجت به الأنظمة العربية إلى هاوية السلام الكاذب، والذي فرضه هنري كيسنجر على الجميع، منطق"خُذ وفاوض".
هذا الـ"خُذ وفاوض" تعاطاه ياسر عرفات، في "أوسلو" وما بعدها، واعتنقه رجالُه عقيدة، فخصّص له كبير المفاوضين الراحل صائب عريقات كتابًا كاملًا اختار له عنوان "الحياة مفاوضات"، فماذا أخذ الفلسطينيون من المنطق الأميركي، بل ماذا أخذ عرفات وصائب عريقات شخصيًا، سوى جرعة من السم القاتل أودت بحياة الأول بعد محاصرته في مقر المقاطعة في رام الله حتى مات، ورحيل الثاني في وقائع موتٍ حزينةٍ داخل مستشفى صهيوني؟
نترك الماضي ونبقى في اللحظة الراهنة، ماذا أخذ الفلسطينيون من الهدنة الأولى سوى مضاعفة أرقام الشهداء وزيادة وتيرة الهدم والإبادة والوصول إلى مرحلة هدم المستشفيات فوق رؤوس المرضى والنازحين والطواقم الطبية ودهسهم بالجرّافات؟ ماذا غير عمليات الإعدام الجماعي للرجال وإهانة النساء، ثم أخيرًا استهداف جثث الشهداء؟
والوضع كذلك، حين تعلن المقاومة أن لا هدنة مؤقّتة بعد اليوم، وأن المقبول فقط هو إنهاء العدوان وإعمال مبدأ "الكل مقابل الكل"، فإن على الوسطاء والمتفاوضين العرب أن يلتزموا هذا الخط، وألا يمارسوا أي نوع من الضغوط لكي يرضى الفلسطينيون باستراحة للعدو يلتقط فيها أنفاسه وينظّم صفوفه ويرسم صورة انتصارٍ زائف، يعود بعدها أشدّ إجرامًا وتوحشًا، وأكثر جاهزية لمواصلة تنفيذ خُططه للقضاء على أي قدرةٍ للشعب الفلسطيني على المقاومة.
ما تحتاجه فلسطين الآن مبادرات عربية شجاعة تتحدّى الصلف الصهيوني، وتوصل المساعدات للشعب الفلسطيني، وهي أشياءُ في المتناول، ولا أظن أن وقاحة الكيان الصهيوني يمكن أن تصل به حد تنفيذ أعمال إجرامية ضد قوافل مساعدات مصرية، مثلًا، تذهب إلى غزة برًا، أو عن طريق إنزال جوي على غرار ما فعلته طائرة أردنية في بدايات العدوان، ولم تتعرّض لأذى، وفق الرواية الرسمية الأردنية.
يحتاج الشعب الفلسطيني جسارة شقيق، لا شطارة وسيط، يُحاصره بصفقاتٍ ومبادراتٍ تطرب لها إسرائيل، من نوعية الأفكار السعودية المعروضة على الخارجية الفرنسية، والتي تقوم على تهجير قيادات المقاومة من غزّة إلى الجزائر.
من كان يريد دعم الشعب الفلسطيني حقًا، فليقبل بمنطق مقاومة هذا الشعب، والذي عبّرت عنه من القاهرة أمس الخميس، بتصريح لقيادي بها قال فيه "أبلغتُ الوسطاء في مصر وقطر رسالة واضحة بأنه لا تفاوض على هدنة جديدة، والحديث فقط عن وقف شامل لإطلاق النار"، مشدّدًا على استعداد المقاومة لتحمّل تبعات هذا القرار.
ومن كان يريد التحرّر من التبعية للغطرسة الأميركية، فإن واشنطن في أضعف حالاتها، ومن كان يريد الانعتاق من أوهام السلام الإسرائيلي، فالكيان في أسوأ أوضاعه، والحال كذلك، فمن حقّ المقاومة، بل من واجبها، ألا ترضخ لضغوط لفرض هدنةٍ مؤقتةٍ تريدها الإدارة الأميركية اليوم قبل الغد، ومعها حلفاؤها الأوروبيون الذين يريدون قضاء عطلات كريسماس على إيقاعات قتلٍ أكثر هدوءًا وأقل دماءُ تسفك في أرض المسيح عليه السلام.
ما الذي يُجبر المقاومة على ابتلاع هدنةٍ تعلم مسبقًا أنها ليست سوى مقدّمة لجنون أكبر وإجرام أكثر، بينما الواقع الحالي يسجل كل يوم بطولة وملحمة مما تفرد لها الصفحات الناصعة في سجلات التاريخ، من شمال غزّة إلى جنوبها، من جباليا لخانيونس للشجاعيّة لجحر الديك.
غزّة تعيش الآن كل يوم مذبحة أكبر مما تحتفظ بها الذاكرة، من دير ياسين إلى بحر البقر إلى كفر قاسم وصبرا وشاتيلا وقانا وحلب ورابعة العدوية، وكل يوم في حياة الفلسطيني تحت نار العدوان هو تاريخٌ يقطر دمًا ويفوح عطر بسالةٍ وبطولةٍ وفداء، وخذلانًا من إخوة يوسف الذين تركوه وحيدًا في خانيونس، ولم يقدّموا له شربة ماء أو حبّة دواء، بل وقف بعضهم بعيدًا يستعجل العدو في القضاء عليه.