كيف تدير الجزائر الريادة الإقليمية؟

05 يناير 2021
+ الخط -

عندما كتب الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، في تسجيل على حسابه في"تويتر"، بعد غياب طويل بسبب المرض، أنّ "الجزائر أقوى مما يظنه البعض"، تساءل الرأي العام في المغرب عن اللغز الكامن وراء تصريح من هذا القبيل في الظروف الراهنة التي يعرفها شمال أفريقيا، عموماً، والمغرب الكبير، على وجه الخصوص. ولم يتأخر المحللون في الضفة الغربية للجزائر، في اعتبار أن الأمر موجّه إلى بلادهم، ثم انطلقت الأذرع الإعلامية الجزائرية، في الإعلام المحلي أو في القنوات الأجنبية، لتعطي مضموناً محصوراً "للبعض" المقصود بالعبارة الرئاسية. ولا يقف الأمر بالنسبة إلى كثيرين عند الحدود الغربية للبلاد، بل يتعدّاه إلى دورها في شمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء، فالمواجهة لا تحصل بالضرورة على الحدود، بعد أن أمن المغرب سيادته الميدانية على الصحراء، وحقق نجاحاتٍ أساسيةً على هذه الجبهة، مع تحوّل المنطقة إلى منصّة دبلوماسية واقتصادية، يتجاوز مداها حدود الجوار أو المنطقة المغاربية، إلى التأثير الدولي (أوروبي – أميركي - متوسطي).
ما سيفسر مضامين التصريح كان في الجارة الشمالية للمغرب والجزائر معاً، أي إسبانيا التي تابعت الموضوع بالتحليل والقراءات الاستراتيجية. والرسالة منذ ذلك أن المواجهة قد تأتي من طريقٍ ملتوٍ وملتف، أي من طريق ضمان الريادة الإقليمية، ومحاصرة الشقيق اللدود في محيطه القارّي والمغاربي.
في الواقع، كان تبون يحيل على تعريف محصور للقوة الإقليمية، بما هي القدرة التي تملكها الدولة، عسكرياً واقتصادياً، في ضمان دورها للتأثير في الأمن والسلم في المنطقة. وقد كتب لوكس مارتين، في المجلة المتخصصة "أطالايار" التي تضع مفاتيح العالم بين يدي قرائها، أن التعريف المحصور للقوة بالنسبة إلى الجزائر يكمن في إدارة القوة العسكرية والاحتياطي الاقتصادي، وهو ما يفسّر الحديث الرئاسي عن القوة الموجودة في الشقيقة الكبرى للدول المغاربية. وبذلك، التعريف الكلاسيكي هو المهيمن على الطبقة الحاكمة الجزائرية، الذي نظر له دييك فرازيي وروبيرت ستيوارت، بما هي القوة المسنودة بالمركب العسكري - النفطي، الذي يحتل مكانة مهمة في تدبير المنطقة، فالبلاد تملك شساعة جغرافية تعطيها صورة عن نفسها قوة جغرافية حقيقية، ثم هي تسارع دوماً إلى ضمان التفوق العسكري، باعتبار أن الجيش الوطني الشعبي هو العمود الفقري للدولة، وهو جزءٌ من هُوية الجزائر السياسية والجغرافية، علاوة على أن الجزائر هي البلد الذي يستورد أكبر كمياتٍ من الأسلحة، وميزانيتها العسكرية تفوق كل الدول الأفريقية. كذلك إن احتياطيها من الغاز والبترول يمكّنها من قدرات مادية كبيرة، على الأقل قبل انخفاض أسعار النفط وتراجع مداخيله.

كان لافتاً أن الرئيس الذي مضى على انتخابه سنة يحيل على هشاشة المؤسسة المركزية، الرئاسة في الدولة، باعتبار أن خمس الجزائريين فقط هو الذي أعطى صوته لشرعية الرئيس

بالنسبة إلى القوة العسكرية، أحدث الدستور الجزائري الجديد تغييراً في العقيدة الخارجية للدولة، التي كانت دوماً تقوي جيشها من دون المشاركة في العمليات خارج البلاد، وهو تحوّل قد يكون وراءه السعي إلى منافسة المغرب الذي سبقها بعقود في المشاركة في قوات حفظ السلام، الأممية أساساً. وليس مصادفةً أن الحديث عن القوة العسكرية تكاثر في الفضاء الإعلامي والسياسي، وجيش بذلك الشعور بالقوة، وتمجيدها، غير أن الأكثر إثارة للتعليق، كان ولا شك أن الذي كان يلوح بقوة البلاد هو رئيسها المريض. وقد أعقب حكمه، إذا شئنا، رئيساً مريضاً، وهو بذلك يحيل النقاش عن القوة إلى السلامة الجسدية للدولة في شخص رئيسها، علاوة على ضعف المؤسسات، فقد كان لافتاً أن الرئيس الذي مضى على انتخابه سنة يحيل على هشاشة المؤسسة المركزية، الرئاسة في الدولة، باعتبار أن خمس الجزائريين فقط هو الذي أعطى صوته لشرعية الرئيس، وهو ما يحيلنا على ما كتبه لوكاس مرتين، أن المفتاح يظل، مع ذلك، في القوة المؤسساتية للنظام، وتماسكه الداخلي، وهو ما لا يمكن بالفعل الحديث عنه في الشأن الجزائري، بعد سنةٍ من الحراك الشعبي الذي هزّ شرعية النظام، ثم الحرب الداخلية بين أجنحة الحكم، الشيء الذي يبدو أن عبد المجيد تبون يريد أن يتداركه بإطلاق سراح أقطاب النظام الدائمين، أمثال مدير المخابرات الأسبق الشهير محمد مدين المعروف بتوفيق، والسعيد بوتفليقة وعودة وزير الدفاع الأسبق خالد نزار، والجنرال طرطاق... إلخ. وقد كان اعتقالهم أحد مظاهر فقدان التماسك، بل الخلاف على إدارة مرحلة ما بعد الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي طبع بوجوده وشخصه النظام الجزائري عقدين. هذا الترميم السياسي العسكري يكشف عن فجوة أخرى في الكتلة الحاكمة التي ظلت متماسكة منذ العشرية السوداء التي قادتها الدولة ضد المتطرّفين الإسلاميين بعد إلغاء الانتخابات التعدّدية في بداية تسعينيات القرن الماضي، وهو ما يحرمها ورقة أساسية في لعب الريادة الجهوية، وقبول الأطراف الموجودة في الدائرة الإقليمية بدورها.

الانهيار الملحوظ في اقتصاديات الدولة زاد حدّةً مع الأوضاع الناجمة عن الجائحة الكونية

يضاف إلى ذلك الانهيار الملحوظ في اقتصاديات الدولة، وقد زاد حدةً مع الأوضاع الناجمة عن الجائحة الكونية (صادرات النفط التي تمثل 95% من عائدات الدولة تراجعت بما يفوق 12% سنة 2019). ولم تستثمر الجزائر بما يكفي تجربتها الطويلة في الحرب على الإرهاب، عندما حان استعمالها إقليمياً. وعلى الرغم من وجود بنيات إقليمية كانت الجزائر في أصل إنشائها (لجنة القيادة العامة المشتركة، في إبريل/ نيسان 2010 بين مالي وموريتانيا والنيجر، إضافة إلى البلد المضيف)، فإن الدولة الأكثر حضوراً، ظاهرياً، هي... العدو التقليدي للجزائر: فرنسا!
وقراءة تصريحات الرئيس الجزائري تكتسي بعداً آخر الآن. يكتب لوكاس مارتين: "إذا كانت الجزائر تقدّم لنا المثال الواضح على البلاد التي استثمرت مجهوداتها لكي تتحوّل مواردها الطبيعية المهمة واستثماراتها الضخمة في مجال الدفاع إلى ريادة فاعلة في المغرب الكبير والساحل، فإن المغرب يشكل نموذج الفاعل الإقليمي الذي يسعى إلى أن يتحوّل مرجعاً للأمن الإقليمي ومورداً له، يستعمل بنجاعة موارده الضعيفة بتحويلها إلى أدواتٍ فاعلةٍ للرفع من تأثيره الإقليمي". ويضيف عن جدارة أن القوى الإقليمية في منطقة المغرب الكبير والساحل، لا يمكن قياسها أو تحديد تعريفها، حصرياً وبناءً فقط على قدراتها المادّية، من قبيل الإنفاق العسكري أو الاحتياطي الاقتصادي أو عدد السكان .. إلخ، بل الميزة الرئيسية التي يجب أن تَسِمها هي قدرتُها على تفعيل وتطبيق ترسانة واسعة من الإجراءات والسياسات الأمنية التي يكون لها تأثير ما وراء حدودها.

يقول الخبراء الإسبان إن التفاعل التوتري الجهوي الذي يجعل الجزائر تعاكس كل مجهودات جارها المغرب في تعزيز وحدته، هو أكبر عائق أمام تسريع الريادة الإقليمية

صار للمغرب وضعه الاعتباري لاعباً إقليمياً كبيراً، يسعى إلى تقويته وتكريسه، في الواقع وفي العلاقات مع الآخرين. وهذا الارتقاء لم يعد خافياً على أحد، كذلك فإنه يحظى بمتابعة دولية وإقليمية، ويثير في لعبة الدول، المنافسة أو العداء حتى. وعندما نقول الدور الإقليمي المركزي للمغرب، فنحن نفسر جزءاً من تصريح الرئيس الجزائري، واضعين نصب أعيننا القدرة على التأثير في الهندسة الأمنية والاستقرار الجهوي الذي يشمل المغرب الكبير ودول الساحل، كبوابة لأفريقيا، ثم شمال أفريقيا درعاً للشرق الأوسط. والواضح أن قواعد الاشتباك الجهوي تغيرت، وليست هي نفسها بالنسبة إلى المغرب والجزائر، كما يتضح مما سبق أعلاه. والذي سيكون مفيداً في الواقع، هو التجاوب مع دعوات التقارب والخروج من منطق التنافس المقيد لبروز المغرب الكبير. فالمغرب، بتشابكه الديني الثقافي، وقوة امتداده الاقتصادي، باعتباره أول بلدٍ مستقبل للاستثمار الأجنبي المباشر بالقارة الأفريقية، وقدراته الأمنية، والشراكة في السلام في ليبيا ومالي، والجزائر بقدراتها النفطية وشساعتها الجغرافية، في الواقع، متكاملان، وضروريان لتحجيم النفوذ الخارجي (التركي - الروسي - الأوروبي - الصيني) في المنطقة.
من المفارقة، يقول الخبراء الإسبان، إن التفاعل التوتري الجهوي الذي يجعل الجزائر تعاكس كل مجهودات جارها المغرب في تعزيز وحدته، هو أكبر عائق أمام تسريع الريادة الإقليمية.

768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.