كل هذه الجماعات السلفية المقاتلة في اليمن
دفعت تعقيدات الحرب في اليمن وأجندات أطرافها المحلية والإقليمية إلى تغليب القوى المحلية المسلحة، بما في ذلك الأحزاب السياسية، بحيث أصبحت هذه القوى ثقلاً سياسياً. في المقابل، أثرت تلك العوامل سلباً على جماعات محلية أخرى أكثر ضعفاً، بحيث انتقلت، مع الوقت، إلى خلفية المشهد السياسي، على الرغم من استمرار استخدامها قوة مقاتلة في جبهات الحرب المختلفة. وربما، يمثل واقع الجماعات السلفية المقاتلة، على اختلاف تموضعاتها السياسية وجغرافياتها، مؤشّراً على الانزياحات التي قوضت الكثير من وجودها الاجتماعي والسياسي، بما في ذلك تشرذمها في بيئاتٍ اجتماعيةٍ مختلفة، فضلاً عن تحول بعض المجاميع السلفية المقاتلة لقفاز للقوى المحلية الأكثر فاعلية.
يشكّل الضعف التنظيمي للجماعات السلفية المقاتلة أحد الاختلالات البنيوية التي رافقت تحوّلها من جماعة دعوية، تندرج تحت الجماعة السلفية التقليدية إلى جماعةٍ مقاتلة، بحيث مثّل ذلك أحد المنافذ الرئيسية التي سهل اختراقها سياسياً من القوى المنافسة لها الأكثر تنظيماً، وكذلك القوى التي وظفتها في صراعاتها البينية مع خصومها ومنافسيها، بالإضافة إلى فشلها في إعادة تنظيم نفسها في إطار سياسي منظم، بحيث تستطيع فرض استحقاقاتها السياسية على السلطة الشرعية، ومع تأسيس معظم الجماعات السلفية المقاتلة تشكيلاتٍ مسلحة، خاصة بها إلى حد ما، فإن من بقى من هذه التشكيلات لم يتم مأسسته أو التعاطي معه بوصفه قوة نظامية في إطار القوات الموالية للرئيس عبد ربه منصور هادي، بحيث تحوّلت إلى قوة مسلحة رديفة للقوى السياسية، كما لعبت الدول المتدخلة في اليمن دوراً محورياً في تقويضها، فضلاً عن تأثير التحوّلات التي شهدتها معسكرات الحرب المحلية، بما في ذلك تناقضات مصالح أطرافها، بحيث أزاحت الجماعات السلفية المقاتلة من المشهد السياسي أو على الأقل حَجَّمَتها عسكرياً، لصالح القوى المنافسة لها، أو المتحالفة معها.
الضعف التنظيمي للجماعات السلفية المقاتلة أحد الاختلالات البنيوية التي رافقت تحوّلها من جماعة دعوية، تندرج تحت الجماعة السلفية التقليدية إلى جماعةٍ مقاتلة
مع اختلاف صيرورة الجماعات السلفية المقاتلة في المناطق المحرّرة، وتباين ظروفها المحلية، فإن تأثير الدول المتدخلة كان حاسماً في تفتيتها، من خلال تصعيد صراعها مع القوى السياسية المنافسة لها، وتُمثِل المآلات التي انتهت إليها جماعة أبو العباس في مدينة تعز مثالاً حياً على تبعات الدور الإقليمي، فالجماعة التي كانت أهم الجماعات السلفية المقاتلة تأثيراً من حيث عدد مقاتليها، وثقلها العسكري في جبهات الحرب في مدينة تعز، تحوّلت، بعد ست سنوات من الحرب، إلى قوة هامشية غير مؤثرة، تنشط في بيئةٍ اجتماعيةٍ خارج مناطقها، وتحتكم لقوى سياسية بموجب تحالف مرحلي، إضافة إلى تعرّض قاعدتها الاجتماعية وصفوفها الأولى لاستقطاب من الأحزاب الدينية، كحزب التجمع اليمني للإصلاح، وأثر ذلك في تنمية الصراعات بين أجنحتها، وهو ما يتجلّى بدور القيادي السلفي "صادق مهيوب" المكنى بـ"أبو الصُدوق"، مؤسس الجماعة السلفية المقاتلة، "الجبهة الشرقية" لاحقا جماعة أبو العباس، والذي اختلف معه في مرحلة مبكّرة من الحرب، وأسس تشكيلا عسكريا معارضا له، تقارب مع حزب الإصلاح، إلى أن تولى قيادة كتيبة الاحتياط باللواء 170 دفاع جوي الموالي ل "الإصلاح"، وجاء اغتياله في شهر يونيو/ حزيران الماضي، في ظروف غامضة، وإن أتى في سياق التصفيات المتبادلة التي رافقت تسليح الجماعات السلفية والأحزاب السياسية في بداية الحرب، فيما مثّل انشقاقه عن الجماعة السلفية أول ضربة لها، بحيث تشتت ولاءات مقاتليها.
إلى ذلك، جُرِّدت الجماعة السلفية المقاتلة في مدينة تعز من قوتها العسكرية، وذلك مع تحولها إلى رأس حربة في صراع الإمارات ضد حزب الإصلاح، والذي كانت كلفته باهظة على الجماعة وعلى مستقبلها، فقد استطاع الحزب الذي يتملك عوامل القوة السياسية والعسكرية، بما في ذلك التحشيد الإعلامي والمجتمعي في وصم الجماعة أداة إماراتية في مدينة تعز، ومن ثم تجريمها سياسياً وتصفيتها، أسفر عنه طرد قيادات الجماعة السلفية من وسط المدينة إلى خارجها، الأمر الذي أدّى إلى فقدانها مواقعها التاريخية في وسط المدينة، أعقبه استهداف مركز نفوذ الجماعة السلفية في منطقة "الكُدحة" في مدينة التربة، وتجريفه، وذلك بعد سيطرة حزب الإصلاح على اللواء 35 مدرع، وتأمين المنطقة من المقاتلين السلفيين وخصومه السياسيين، بحيث انتقلت معظم قيادات الجماعة السلفية ومقاتليها في عملية نزوحٍ ثالثة إلى جبهة الساحل الغربي، والاندماج في مكونات عسكرية جديدة تحت قيادة العميد طارق محمد صالح، الذراع العسكري للمؤتمر الشعبي، جناح الرئيس السابق، علي عبدالله صالح، فيما تشتت مقاتلون كثيرون في جبهات أخرى، وآثر كثيرون منهم ترك القتال والانكفاء في أرياف مدينة تعز، إلا أن انتقال جماعة أبو العباس إلى جبهة الساحل الغربي، والقتال في بيئة جديدة، بما في ذلك توطين مقاتليهم وأسرهم، كانت الضربة الأخيرة لأهم الجماعات السلفية المقاتلة في اليمن.
تأثير الدول المتدخلة كان حاسماً في تفتيت الجماعات السلفية المقاتلة، من خلال تصعيد صراعها مع القوى السياسية المنافسة لها
على مدى سنوات الحرب، ضمّت جبهة الساحل الغربي قوى سياسية وعسكرية عديدة، وافدة ومتوطنة ومستوطنة، تقاتل تحت مظلات سياسية متعارضة، فإضافة إلى تشكيلات المقاومة التهامية بزعاماتها المتنافسة، تحضر قوات ألوية العمالقة التي يغلب على تكوينها الطابع السلفي الجنوبي، وتشكل القوة الرئيسية في محاربة جماعة الحوثي، فضلاً عن تركز قوات العميد طارق، بتشكيلات حراس الجمهورية؛ وفيما طغت الصراعات البينية بين هذه القوى نتيجة تنازعها على السلطة المجتمعية والقيادة العسكرية في جبهات الساحل، فإن انتقال جماعة أبو العباس إلى جبهة الساحل، شتتها سياسياً، بحيث لم تستطع إعادة تجميع مقاتليها في كيان عسكري منظم، وتحت قيادة سلفية موحدة، حيث تحولت إلى قوة مقاتلة رديفة لقوات طارق، من خلال دمج مقاتيلها في "اللواء العاشر حراس جمهورية"، وإذا كانت جماعة أبو العباس ظلت تتبع اللواء 35 مدرع سابقاً، على الرغم من احتفاظها بقوامها وعدم دمج مقاتليها باللواء، فإنها كانت تتبع جيشا يخضع لشرعية الرئيس هادي، فيما دُمج مقاتلوها في اللواء العاشر التابع لطارق، الذي لا يعترف بشرعية هادي، يعني أنها زجت بمقاتليها في معادلة غير مأمونة العواقب، وبالتالي فقدت جماعة أبو العباس تأثيرها السياسي والعسكري كتكوين سلفي موحد.
مع اختلاف صيرورة الجماعات السلفية المقاتلة في المناطق المحرّرة، وتباين ظروفها المحلية، كان تأثير الدول المتدخلة حاسماً في تفتيتها
في المقابل، لم تكن الجماعة السلفية المقاتلة في جنوب اليمن بحال أحسن من جماعة أبو العباس، فمع انتظام معظم مقاتليها في ألوية العمالقة التي تقاتل في جبهة الساحل الغربي، بما في ذلك رفد جبهات الحدود للدفاع عن الأراضي السعودية، فإن استهدافها من الأحزمة الأمنية التابعة للمجلس الانتقالي الجنوبي يشكل خطراً على مستقبلها. ويبدو أن التنافس بين القوتين يعيق أي فرصة لتخفيض الصراع بينهما، فمن جهة، يمثل تنازعهما على تمثيل المقاومة الجنوبية شعبياً نقطة خلافية بينهما، ففيما أتى صعود قيادات المجلس الانتقالي على حساب المقاومة الجنوبية، بفضل الدعم الإماراتي، فإن السلفية الجنوبية، ممثلة بقطاع واسع من قوات العمالقة، يمثلون الشريحة الرئيسية من المقاومة الجنوبية التي قاتلت ضد الحوثيين، وحرّرت المدينة، ومن ثم صعود قوات العمالقة نشأ من المجتمع المحلي، ولم يكن بدعم إماراتي في البداية، كما أن عزوف قياداتها عن العمل السياسي جعلهم، إلى حد ما، محايدين في الصراع على التمثيل السياسي بين المجلس الانتقالي وسلطة الرئيس هادي، بحيث ينظر لهم قوة مرجّحة، ومن جهة ثانية، يرى المجلس الانتقالي بقوات العمالقة قوة تهدد نفوذه السياسي في جنوب اليمن، كونها قوة عسكرية موازية لقواته. ومن جهة ثالثة، فإن ولاء معظم قيادة ألوية العمالقة للرئيس هادي، وإن كان ضمنياً، جعل الانتقالي يستشعر خطر المقاتلين السلفيين على نفوذه في الجنوب، فضلا عن عقيدتهم الدينية، بعكس العقيدة المناطقية لمقاتلي المجلس الانتقالي. ومن جهة رابعة، عمّق تنافس القوتين على الدعم الإماراتي وكذلك السعودي، الصراع بينهما، فمع أن المجلس الانتقالي هو الوكيل المحلي المفضل بالنسبة للإمارات، فإنها تدعم، إلى حد كبير، ألوية العمالقة، فيما يبدو الوضع مختلفا بالنسبة للسعودية، فمع تمكينها للمجلس الانتقالي سياسياً، فإنها تجد في القوى الجنوبية الأخرى، بما فيها قوات العمالقة السلفية، أداة أخرى لتحقيق شروطها، ومن ثم يرى المجلس الانتقالي بقوات العمالقة قوة بيد السعودية قد تستخدمها ضدها في أي صراع مستقبلي، خصوصا بعد استدعائها القيادي السلفي علي البدوي، قائد كتيبة في "اللواء عاشر عمالقة" إلى مدينة عدن، قبل أشهر، أدّى إلى اندلاع جولة من الاشتباكات بين قيادات سلفية تتبع قوات العمالقة وقوات محسوبة على المجلس الانتقالي في مدينة عدن، سقط فيها قتلى وجرحى، فضلا عن مداهمات منازل بعض قيادات العمالقة في مدينة عدن، تحت لافتة مكافحة الإرهاب.
صعود الجماعات السلفية المقاتلة في اليمن، ثم تشرذمها، سردية تتوافق مع تعقيدات حرب عبثية بلا أفق
تتحرّك الجماعات السلفية المقاتلة في بيئة حربٍ متغيرة، وإن كانت لا تخدم بقاءها، فمع حرصها على الحفاظ على رأسها من خلال الاحتماء بالقوى المحلية، أو تخفيض توترها مع القوى المناوئة لها، من خلال ترتيب علاقتها بالسعودية والإمارات والدفاع عن مصالحهما، فإن تجريمها يظل الخطر الأكبر على مستقبلها، فعلى الرغم من استخدام السعودية والإمارات السلفيين كقوة مقاتلة عقائدية باطشة ضد جماعة الحوثي، وكذلك في صراعاتها مع القوى المحلية المعارضة لها، فإن موقفها الرسمي من الجماعات السلفية المقاتلة، بما في ذلك الموالية لها، لن يخرج عن رؤية حليفها الأميركي للجماعات الإسلامية عموماً، وملف مكافحة الإرهاب في اليمن، وذلك لتقارب القوى الإسلامية، وسهولة تحولها إلى قوة راديكالية، كما أن وصم القوى السياسية المحلية للجماعات السلفية المقاتلة قوة دينية، يصعب السيطرة عليها، يجعلها تنظر لها بعين الارتياب، وإن استخدمتها حالياً، بحيث قد تغير موقفها منها، وتستهدفها سياسياً، في حال تعارضت مع مصالحها، أو استغنت عن خدماتها العسكرية.
صعود الجماعات السلفية المقاتلة في اليمن، ثم تشرذمها، سردية تتوافق مع تعقيدات حرب عبثية بلا أفق، ومع أنه من المبكر الجزم بشأن مستقبلها، في ضوء استمرار الحرب والحاجة لمقاتليها العقائديين، فإنها تظل قوة مقاتلة هامشية، وترسا في آلة الحرب، إلا أنها قد تتحول إلى قوة باطشة تهدّد الجميع، بمن في ذلك حلفاؤها ومناوئوها، بحيث تجعل إعادة دمج مقاتليها في المجتمع اليمني مشكلة كبيرة في المستقبل.