كل هذا الصيف وآليات التأقلم في لبنان
يحفل فصل الصيف اللبناني بمظاهر حفلات ومهرجانات وكثافة حجوزات تحمل كثيرا من مظاهر الترف والبذخ، فيما البلد مقبلٌ على الانهيار بحسب البنك الدولي، ويعاني أزمة اقتصادية ومالية، بين الثلاث الأسوأ عالميا منذ منتصف القرن التاسع عشر. حالة انفصام وآليات تأقلم تطبع يوميات اللبنانيين. عشرة آلاف مشاهد لتامر حسني في الفوروم دو بيروت، بروفة لحفلة النجم المصري عمرو دياب، ولمثلها من عشرات الحفلات التي يُحييها فنانون لبنانيون وعرب. لا تجد كرسيّا فارغا في النوادي والمطاعم والحانات والمهرجانات، إلا كرسي الشغور في رئاسة الجمهورية وفي غيرها من مواقع. مفارقة حيث جزءٌ كبير من إنفاق اللبنايين يذهب على الكماليات والاستهلاك في حالة لا تقتصر على الفئات الميسورة، تتعدّاها إلى فئات اجتماعية أخرى، فتنعقد مشهدية على جسم أغنية "بدّي عيّش" للفنانة هيفاء وهبي.
تتجاوز أسعار البطاقات المجنونة متوسّط ما يتقاضاه معظم اللبنانيين، وحتى نطاق المساعدة النقدية عبر البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقرا، أو مشروع شبكة الأمان الاجتماعي للاستجابة لجائحة كوفيد 19 والأزمة الاقتصادية في لبنان، المموّل من البنك الدولي، ويصل عدد أفراد البرنامجين إلى 225 ألفاً، وحتى المساعدة النقدية التي تقدّمها بعض الدول للمؤسّسة الأمنية، والحاجة الماسّة لتوسيع نطاق هذه المساعدة. ينغمس اللبنانيون في "سياحة ساخنة"، فيتّخذون وجهتهم إلى التمرّد على الأوضاع، ويختارون النمط الأقرب إلى طبيعتهم بكل أشكاله، والتلذّذ بوقت موسوم بالانهيارات، لجعل الحياة أكثر لطافة، وربما مادة للسخرية من مضمون الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ويقومون بما في وسعهم للتأقلم مع الحالات، باختلاف الأمزجة والأهواء والإمكانات.
أجبرت الأزمة التي يعاني منها لبنان نسبة كبيرة من المواطنين على اللجوء إلى استراتيجيات تأقلم تنطوي على الحدّ من إمكانية الحصول على نوعية الرعاية الصحية
ليس اللبنانيون من ذوي العقد النفسية ليعيشوا حالة جنون عامة، لكنهم جحدوا الانتظارات البائسة، فقرّروا الخروج إلى الساحات والهواء، والاستسلام لليالي، وعدم الإذعان لتمثلات التقشف وشدّ الأحزمة (توصيفات المؤسّسات المالية الدولية)، وعدم الاستدلال إلى أماكن ومعدلات فقر جسيمة (80%)، والتضخّم (أعلى معدل تضخم على مستوى العالم في تنافس وثيق مع السودان)، وتراجع نصيب الفرد من الناتج المحلي 40%، طالبين الهجرة إذا سنحت لهم الفرصة، وبكل الحواسّ من وقائع سنوات عجاف، فيستعينون بأجواء السهر سبيلا للخروج من عزلاتهم، ومن الصور في دركها الأسفل، ولا يريدون حتى معرفة أكثر لكيفياتها وقدرها البائس، في ما وصلت إليه أحوالهم من وضع كارثي.
يشتري اللبنانيون الفرح والوقت المتاح، مع نزوعيّة استهلاكية للمشاعر ولكل شيء، ومن صرف العملات، حتى على حفلات فنية تعكس البشاعة. أوقات الذروة مع عودة أفراد الأسر من المغتربات (120 طائرة يوميا)، والزيادة في تحويل الأموال من الخارج (نحو 10 مليارات دولار)، مع توقع ارتفاع عدد السياح إلى نحو مليونين. مطالب اللبنانيين بسيطة، استعادة مستوى اعتادوا عليه من هناءة العيش والطبيعة الاجتماعية والتلاقي، فانتقلوا إلى تدويرالحياة نفسها، وتدوير أموالهم ومدّخراتهم (استفادت فئة قليلة من تسديد 30 مليار دولار هي قروض منذ بداية الأزمة)، باستبدال الصرف والإنفاق على شراء السيارات وأدوات المنزل أو الألبسة أو الكماليات أو الدواء والاستشفاء، بالإنفاق على الحفلات والمطاعم، وحتى على الترّهات، ما دامت السلطة لا تنظر إلى الناس. حالة ليست طبيعية/ دالّة على أن اللبناني لا يتأثر كثيرا بتطوير السياسات المبنيّة على الأدلّة وإدارة الأزمات، وحول الآثار الشاملة للأزمة التي طاولت الوظائف والمداخيل والفقر في الطاقة وسبل العيش.
مسؤولية المجتمع الدولي أن يرى الصورة المليئة بالحياة، أن يدعم لبنان لمواجهة ظروف قاسية ينتفض عليها اللبنايون مجدّدا
وقد خفض القسم الأكبر من الأسر كمية المواد الغذائية الأساسية مثل الحليب والفواكه والخضروات والخبز (حسب الباحثة وأستاذة علم الاقتصاد في الجامعة الأميركية في بيروت ليلى داغر). أجبرت الأزمة التي يعاني منها لبنان نسبة كبيرة منهم على اللجوء إلى استراتيجيات تأقلم تنطوي على الحدّ من إمكانية الحصول على نوعية الرعاية الصحية. علاوة على ذلك، لجأ 19% منهم إلى إلغاء تأمينهم الصحّي الخاص، واختار 25% أو أكثر تقليل استخدام الأدوية المزمنة. انفجاراليأس اللبناني جرّاء الأزمة التي ما عادت تسمح لـتسع من عشر أسر لبنانية بشراء ما يكفي من ضروريات، واضطرار أسر عديدة لبيع ممتلكاتها والأصول من المساكن والسيارات، وتخفيف الإنفاق 25% على تعليم الأطفال. اللبنانيون حوّلوا الجحيم إلى محاورة الأشياء الأخرى، واختيار بدائل تفضيلية. أرقام صادمة إزاء تراجع دخل الفئات غير الميسورة بين 50% و75%. السلطة اللبنانية لا تحرّز مدى الغضب الذي يعبر عنه اللبنانيون على طريقتهم بالتحرر من عقدة الذنب ومن عقوبة الإعدام إزاء ما يقوض الحياة، فيأتي الصيف ليمدّهم بتلك القوة الثانية. هم يعرفون أنهم بين حالتين هالكتين، خاصة لجهة الإجراءات وإعطاء السلطة الأولوية للسياسات التي تستهدف الحدّ من الفقر وزيادة الأمن الغذائي، والحاجة إلى نظام وطني للحماية الاجتماعية، وتوليد الكهرباء والنقل الجماعي .. وبين مكونات أخرى غير التحويلات النقدية من الخارج. على أمل أن يفتح لهم باب جديد لا يسلبهم بلدهم، ولا الحياة التي تعارفوا عليها وأكناهها، فيدّعون الفرح وحياتهم خالية من الصفاء، ويستهلكون أنفاسهم في "حلم ليلة صيف" في موحى بعيد عن إعلانات الحرب، ومع كل تلك الاختلافات المضادّة والوحدات المختلفة والمتباينة لا سيما إزاء الجمود في الحياة السياسية، حيث لا فكر، ولا إرادة، ولا حركة، ولا تميّز. والبديل غير وسيط، يظهر كل ما في أطباعهم من الاغتباط والضحك وثرثرة اجتماعية مشاكسة، لا تعرفها إن كانت راضية أو غاضبة، من الظلم وسائر أنواعه، أو التلذّذ وسائر أنواعه. يأتي الغضب في مكان آخر كل يوم على موائد طعام ناس آخرين وأطفالهم، أو الجيران في عالم واحد، حيث مطلوب الاستجابة لنداءات المسؤولية الاجتماعية بدل الاستسلام للخذلان في تمويه مستحيل، وثقافة فنية اصطناعية "هابطة" على مسارح مهرجاناتٍ دولية اكتسبت شهرة عالمية.
على صندوق النقد الدولي أن ينظر جيدا إلى تلك الصورة التي يعيشها اللبنانيون ومدى تمسّكهم بثقافة الحياة، وخارج التوصيفات الدرامية لمنظمة الأمم المتحدة لليونيسف عن مستوى عيش الأطفال في لبنان وأحوال اللاجئين السوريين وأونروا. مسؤولية المجتمع الدولي أن يرى الصورة المليئة بالحياة، أن يدعم لبنان لمواجهة ظروف قاسية ينتفض عليها اللبنايون مجدّدا (بعد الحرب الأهلية 1975، وبعد حرب 2006)، وبعد سلسلة شهيرة من الاغتيالات والانفجارات (مرفأ بيروت، 4 أغسطس/ آب 2020)، نشرت الرعب في أرجاء البلاد. هو "الإيغو" اللبناني الإيجابي لإعلان صيفي يحمل رسالة التمسّك بالوطن، وأمل بدينامية/ اجتماعية/ سياحية، لكن الأزمة والمشهدية الدراماتيكية في البلاد لم تنته لجهة عدم تجانس تأثير الأزمة على مختلف القطاعات، ومما هو فراغ ثقافي، أكثر سوءاً من الفراغ السياسي على مستقبل البلاد.