كل هذا الجدل عن القمّة الفرنكوفونية في تونس
عشية احتضان تونس القمة الفرنكوفونية الثامنة عشرة (19 - 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي)، وكان مقرّرا أن تعقد في هذا التاريخ نفسه من العام الماضي (2021). حدث أشعل انعقاده جدلاً حادّا في الفضاء العام وشبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، إذ يتساءل بعضهم عن انعقاد هذه القمة في ظرف أصبحت فيه الفرنكوفونية موضوع تساؤل، وأصبح النقاش محتدّا بشأن نجاعة تداول استعمال اللغة الفرنسية، في وقت اتجهت فيه دول فرنكوفونية عديدة إلى تداول اللغة الإنكليزية في مناهج التعليم ومراكز البحث ومؤسسات التعليم العالي والفضاءات العامة. وقد بدأ هذا التوجّه مع رواندا ليصل إلى الجزائر أخيرا. وبين شق آخر يعتبر الفرنكوفونية إرثاً استعمارياً ثقافياً واجتماعياً في أفريقيا والأقطار المغاربية. وقد كانت تونس من الداعين والمؤسّسين إلى هذا الكيان الذي أصبح اسمه الدول الفرنكوفونية. ويستحضر هؤلاء دور الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، مع الرئيس السنغالي ليوبولد سنغور، سنة 1960، في الحماس لتأسيس هذه المنظمة التي استقرّت في شكلها الحالي بداية مع 1970.
لم يكن بورقيبة يخفي ولعه باللغة الفرنسية وروّادها وفلاسفة التنوير، وهو ابن المؤسسة التعليمية الفرنسية، بناة الفكر الحر ومنظومة الحقوق الكونية والانتصار لحرية الشعوب، بما فيها التي كانت مستعمرات فرنسية في ذلك الوقت، ومن هؤلاء الرواد ديكارت وفيكتور هوغو وإيميل زولا وموليير وسارتر وغيرهم، الذين اصطلح على تسميتهم فلاسفة التنوير.
تاريخيا، بادرت فرنسا بتأسيس المنظمة الفرنكوفونية في زمن كانت تغادر فيه استعمارها أغلب البلدان الأفريقية، ولعلها كانت مطمئنة في تعويض خسائرها التاريخية بإرثٍ تركته في هذه الدول، وهو اللغة، علاوة على ضمان مصالحها الاقتصادية والجيوبوليتيكية، على تعبير زميلنا الباحث الاجتماعي مولدي الأحمر. وها هي فرنسا اليوم تصرّ على الاحتفاء بهذه اللغة في سياق تاريخي مختلف تماما، وتواجه فيه أزمة كبيرة في داخلها، التي انفجرت مع حركات السترات الصفراء، وخارجيا في إعادة التموقع داخل العالم الذي هو بصدد التشكل من جديد، والمفتوح على كل السيناريوهات، خصوصا بعد الحرب الروسية الأوكرانية. واليوم، يتساءل كتّاب ومفكّرون ومتابعون للشأن العام عن جدوى احتفاء تونس باللغة الفرنسية، وهي مثقلة بكل هذه الأزمات التي أصبحت معلومة. وقد يكون هذا حق الماسكين بالسلطة فيها، بحسب الإرث التاريخي، فتونس في الأصل مستعمرة فرنسية. ولكن يتحتم على هؤلاء الماسكين بالسلطة أن يتوقفوا، ومن معهم، عن تمرير فكرة أن اللغة مجرّد أداة للتعبير، وأن المهم في المضمون، لتختفي بذلك علاقتها الدونية بالمنتج التاريخي لهذه اللغة. وتختفي، في الوقت نفسه، علاقة الهيمنة الثقافية والمعيارية التي تقيمها مع الفئات الدنيا من التونسيين الذين لا يتكلمون هذه اللغة.
يتساءل بعضهم عن انعقاد القمة الفرنكوفونية في تونس في ظرف أصبحت فيه الفرنكوفونية موضوع تساؤل
تتجاوز المعضلة النخبة التونسية إلى كل النخب المغاربية التي لا يخفى أنها تتحكّم في مفاصل الدولة علنا أو خلف الستار، وهي، في الغالب، أحادية الرؤية والمرجعية والتمثل التاريخي والاجتماعي، فهي نتاج صناعة ثقافية فرنسية. واليوم يسأل عديدون في خضم هذا النقاش المحتدّ، على غرار الكاتب التونسي أبو بكر العيادي وغيره، في حلقات نقاش مباشرة جمعت كاتب هذه السطور معهم: لماذا ما زال بعض الكتاب التونسيين والمغاربيين الفرنكوفونيين يرون في اللغة الفرنسية غنيمة حرب من زمن أطلق فيه الجزائري كاتب ياسين هذه المقولة، وسلّم بها الجزائريون، لمقاومة الاحتلال الفرنسي، وفضح سياسته الاستعمارية الشنيعة وجرائمه الفظيعة. وقد يكون تاريخيا لصاحب هذه المقولة الحق.
ولكن ما يواصل إثارة الجدل والاستغراب: لماذا يتمسّك جانب من الكتاب المغاربيين باللغة الفرنسية والتعلق بها، بعد رحيل المستعمر الفرنسي عن بلدان المغرب العربي؟ وهنا تطرح مسألة الانتماء، سيما إذا كانت نصوصهم خاضعة لتصوّرات الإثنية المركزية الغربية، لأن النصوص الأدبية ليست مجرّد بنى صرفية ونحوية ومنظومة لغوية بريئة، بل هي حمّالة معان وقيم مشحونة بأيديولوجيا مضمرة أو بادية بين السطور. أليس أغلبهم مثلا يكتب باللغة الفرنسية، لأنه لم يتقن سواها، أو أنه تمرّس بها أكثر مما تمرّس بلغته الأم، لأسباب تاريخية معلومة، أو نتيجة خيارات سياسات تربوية مفروضة، أو إرضاءً للناشر الأجنبي، أو سعيا وراء جوائز هنا وهناك. ولا يهم هنا أن يكون هذا الكاتب ومنجزه أداةً لتحقير بني جلدته. وقد يكون من المستحسن هنا استحضار تلك الاستراتيجية التي وضعها الفرنسيون منذ أواخر القرن التاسع عشر، لجعل اللغة الفرنسية سلاحا يُخضعون به الرقاب، والتي صاغها عالم الجغرافيا أونيزيم ريكلو (1837 - 1916) منظّر الفرنكوفونية التي لا تنفصل، في اعتقاده، عن التوسع الكولونيالي، وذلك ما جاء علنا في مؤلفاته المشهورة، منها "تقاسم العالم" و"بداية مصير عظيم" و"فرنسا، الجزائر والمستعمرات".
هل هنالك من مغانم لتونس، اقتصادية أو دبلوماسية أو ثقافية، وهي تحتضن القمّة الفرنكوفونية؟
كان ذلك عقب هزيمة فرنسا أمام القوة البروسية (1870)، وتردّيها إلى حالة ضعف تخالف وهم العظمة التي كانت تتباهى بها، ما جعل قادتها، وفي مقدمتهم جول فيري (1832-1893)، إلى البحث عن حلولٍ لعلها تعيد إلى فرنسا مجدها المفقود، فكان التوسّع الاستعماري وهيمنة الاستيلاء على خيرات البلدان الضعيفة في المغرب العربي، وأفريقيا خصوصا، إلاّ أن منظّر الفرنكوفونية أونزيم ريكلو قدّر أن ذلك لا يكفي. ولا بد من شيءٍ يرفده، ويصمد بمرور الزمن وتعاقب الشعوب. ومن هنا، اتجه المستعمر الفرنسي إلى نشر لغته وتأسيس استعماره الثقافي، إيمانا بأن اللغة هي عماد الإمبراطوريات والعروة الوثقى للحضارات، وهي المعادل اللساني لسلطة السيف. وها هي كذلك تظلّ إرثا استعماريا يتحكّم في اللسان والوجدان، وصولا إلى الرقاب، وذات سلطة بلا حدود. ولذلك وجب فرضها وتدريسها إجباريا في كل المستعمرات لغةً رسميةً، فيما ظلت في بلدان المغرب العربي شريكةً بعبارة المنظمة العالمية الفرنكوفونية. وبمعنى آخر، أصبح معلوما، لتظل سوقا لشركاء فرنسا ورجال أعمالها في هذه البلدان. وليس غريبا والحال هذه أن يقترح الفيلسوف الفرنسي جاك أتالي، في تقرير بعنوان "الفرنكوفونية محرّكا لنمو دائم"، كان رفعه إلى الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند، سنة 2014، ألحّ فيه على التمسّك بالفضاء الاستعماري القديم الذي غنمت شعوبه اللغة الفرنسية سوقا كبرى للشركات الفرنسية، وهو الفضاء المرشّح لانفجار سكاني مهول في المستقبل القريب.
وبالعودة إلى مقولة أن الإبداع لا وطن له، كما قال الروائي المغربي إدريس الشرايبي، وأن الكتابة عمل فني وليست فعلا وطنيا، وأن الكاتب الحق هو من مواطني العالم، كما يقول الكاتب التونسي الهادي بوراوي، فالسؤال اليوم الذي يمكن طرحه: هل هنالك من مغانم لتونس، اقتصادية أو دبلوماسية أو ثقافية، وهي تحتضن هذه القمّة الفرنكوفونية؟ فإن كانت فرنسا تعبر الجسر اللغوي التاريخي إلى الانتشار الاقتصادي والتوسّع الثقافي مغاربيا وأفريقيا، فما هي مصالح تونس التي يطالب التونسيون بإعلانها اليوم. والحال أن بلادهم تعاني أزماتٍ تراكم أزماتٍ اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا وصحيا؟
هذه بعض الأسئلة الحارقة وغيرها التي ما زالت تُطرح في الفضاء العام، وفي شبكات التواصل الاجتماعي، وعلى لسان نخب تونسية عديدة، وهم يتطلّعون إلى النتائج المرجوّة من انعقاد قمة فرنكوفونية على أرض تونسية مريضة.