كل هذا التشاؤم في لبنان
تسود حالة من التشاؤم السياسي، في استقبال عام 2023 في لبنان، على خلفية استمرار الفراغ الرئاسي، ومحاولات متقطعة الأنفاس لرئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، في تعويم هذه الحكومة، ما دام الاستحقاق الرئاسي وُضع على الرفّ، بانتظار أي تسوية، أو ترتيبات تعالج الوضع القائم. يتصرّف الجميع في لبنان على قاعدة أن مرحلة الفراغ ستكون طويلة، مع تراجع فرصة إنجاز لحظة توافقية داخلية تمنع انهيارات شاملة، إلى ما دون الأسوأ في الأحوال اليومية للبنانيين الذين يواجهون مسائل تائهة عن أنظار السياسيين، ترافق حالة هدم للقطاعات الرئيسة في القطاعين الخاص والعام، تُحدِث تغييرات أساسية في بنية المجتمع وانتقاله من مجتمع ليبرالي إلى مجتمع حربي، فقير، مجتمع أزمات، هي من طبيعة سياسية، قبل أن تكون اقتصادية، أو مالية.
الأزمة اللبنانية غير مستجدّة، تعود إلى عام 2015، وقبل تظاهرات 17 تشرين 2019، مع تبلور استراتيجية تفكيك الدولة اللبنانية، النظام السياسي، وضرب الخصوصية اللبنانية التي كرّست، منذ أيام الإمبراطورية العثمانية، ما يغير وجه لبنان الذي استنفد قواه، مع إعلان إفلاسه في 2019، انهيار الطبقة الوسطى، وهجرة الآلاف من الشباب المثقفين والطلاب، والذين خسروا وظائفهم، ومدّخراتهم وأحلامهم، وأصبحت المطارات وقوارب الموت ملجأهم من أجل العثور على حياة أفضل. الجديد في موجة هجرة اللبنانيين رغبة غالبيتهم (نحو 400 ألف عام 2022)، بعدم العودة إلى لبنان الشقاق والسجالات السياسية والتقاتل الكلامي بمعزل عن التورية أو الالتباس أو الواقعية العلمانية، إلى درجة أن الطبقة السياسية لم تعد تسـتأهل متابعتها، أو الكتابة عنها، لشدّة عبثيتها، وهي تخدم مشروعا للسيطرة على دولة فاشلة، وإذا تعذّر لدى فريق سياسي ذلك، فهو لا يفعل شيئا، كي لا تتحوّل الدولة إلى أشلاء.
لا يستطيع لبنان أن يُكمل على هذه الطريق، مع طبقة سياسية طالب الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بإقصائها، وهو لم يأت على تحديد صعوبة الوضع اللبناني، وصعوبة إصلاح العلاقة مع حزب الله، بمشهد سياسي لا تلتقطه العلاقات الدولية، ولا ترغب بالتعامل معه جدّيا. وفي وقت تنهال النصائح على اللبنانيين بالحوار الداخلي، لا تلوح في الأفق بوادر للتفاؤل بأن البلد يستطيع حلّ أيٍّ من مشكلاته، وأيٍّ من ملفاته. وتلقى دعوة رئيس حكومة تصريف الأعمال لعقد اجتماع مجلس الوزراء معارضة من فريق وزاري يرى أن الحكومة المستقيلة يجب أن لا تجتمع في فترة الشغور الرئاسي. وبالانتظار، خلافات حليفي حزب الله، حركة أمل والتيار الوطني الحرّ، تتصدر الواجهة، ولم يستطع الحليف المشترك من تخفيف وطأتها التي قطعت "شعرة معاوية" بين رئيس الجمهورية المنتهية ولايته ميشال عون ورئيس مجلس الوزراء نبيه برّي، على قاعدة عدم مراعاة الأخير التمثيل المسيحي، والسماح بسيطرة الطوائف الأخرى على الحقوق المسيحية. فيما اتهم برّي عون بطرح قوانين مذهبية وطائفية لا تراعي الانصهار الوطني.
الوضع اللبناني صعب، من دون مستقبل. ليس هناك قوة داخلية قادرة أن تصل إلى شيء، وما عاد لبنان مركز تأثير دولي
يجري ذلك على وقع ارتفاع منسوب المشاورات لعقد لقاء رباعي في باريس، لتدارس مسار الأزمة اللبنانية، يضم إلى فرنسا الولايات المتحدة والسعودية وقطر، في غياب إيران، ذات النفوذ الكبير على حزب الله. الواضح أن المجتمع الدولي سيستكمل مساعداته الإنسانية، ولكن ليس إعادة إنتاج تسوية دولية تحتاج قرارات سياسية، وليس مجرّد تمنيات ووعود. وقد كسرت حادثة التعرّض لعناصر من قوات الأمم المتحدة (يونيفيل) في الجنوب، ضماناتٍ أعطيت بعدم التصعيد مع الأميركيين والمجتمع الدولي. اعتقد حزب الله أنه أعطى هدايا كفاية، في موضوع الترسيم البحري للأميركيين، ولم يحصل في المقابل على شيء، مع حاجة عملية التنقيب على النفط والغاز سنواتٍ قبل استثمارها ماليا، في تعبئة شعبية لتعزيز سيطرته السياسية على لبنان، وتوزيعها على حلفائه ذات اليمين وذات اليسار. وقد نشرت وكالة الاستخبارات الاميركية تقريرا عن ملاحقة "يونيفيل" بالسيارات ونصب كمين، ما يشير بوضوح إلى إرباكٍ في صفوف حزب الله، وحاجته إلى هذا النفط لفك عزلته.
في لبنان تنام على شيء، وتصحو على شيء آخر. كل التغيرات المستقلة بطيئة جدا، وتنتظر من الخارج، ولطالما اعتبر المفكر اللبناني شارل مالك (1906-1987) أن متابعة الحدث العربي، وتحديدا في العراق، مفتاح أساسي لما يجري في لبنان، على نحو متابعة حركة المعارضة الصدرية التي تراجعت، رغم حصولها على الأكثرية البرلمانية، والتزام زعيمها مقتدى الصدر جانبا، وسمح للجماعات القريبة والمتحالفة مع إيران أن تتصدّر المشهد السياسي. وفي لبنان قوة رئيسة هي من تختار من يحكم، وهي حزب الله، لا يملكها الآخرون الذين قد يمتلكون فرصة تنفيذية لكسر التوازنات، ولكن ليس بمقدورهم الاختيار (نموذج نواب المعارضة التغييريين).
حزب الله لن يقدم هدايا إلى اللبنانيين، ولا يبدو مُحرجاً، من دون أثر على المستوى الداخلي
يحاول البطريرك بشارة الراعي أن يلعب دوره، من دون القدرة على إقناع الأطراف الرئيسة بأخذ الأزمة اللبنانية إلى الأمم المتحدة بوصفها قضية دولية. مبادرة صعبة، لا تستطيع أن تجمع حولها موقفا عاما، لا تعكس وجهة نظر جامعة مسيحية، والطرف المسيحي القوي غير قادر على وضع اسم حزب الله في خطاباته السياسية، سيما أن موقفا مثل هذا يتسبّب بتشنج طائفي، إذ لا يراعي موقف الأطراف اللبنانية الأخرى. وحزب الله لن يقدم أيضا هدايا إلى اللبنانيين، ولا يبدو مُحرجا، من دون أثر على المستوى الداخلي. فيما موقف السنّة إلى ضياع، والرئيس ميقاتي يقول في مجالسه "أنا ناطور البناية ليس إلا".
الوضع اللبناني صعب، من دون مستقبل. ليس هناك قوة داخلية قادرة أن تصل إلى شيء، وما عاد لبنان مركز تأثير دولي، فالعراق بحجمه وإمكاناته مغيب. يتعلق مستقبل العالم الغربي بمجرى الحرب في أوكرانيا، التي تعكس قضايا مختلفة، والولايات المتحدة، صاحبة النفوذ الكبير في العالم، تقيّم وزنها المحوري في آسيا، اليابان، كوريا، المحيط الهادي. الطبقة السياسية في لبنان مطالبة بالتواضع، وبتقديم تنازلات للبنانيين، وسط الشدّ السياسي، وتدهور أحوالهم.
يحترم اللبنانيون، في غالبيتهم، نضال المقاومة، لكنهم فقدوا قدرتهم على الاحتمال، والأوضاع، مع تشكيل حكومة ثيوقراطية، والتحالف الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل، عنوان لمرحلة لا تحتمل.