كلّ هذا الإذلال الإسرائيلي للولايات المتحدة
تضع الولايات المتحدة إصبعاً في عين روسيا وهي ترسل المساعدات العسكرية والمالية والإنسانية إلى أوكرانيا، بعشرات المليارات من الدولارات، غير مبالية باحتجاجات موسكو ولا وعيدها. ومن حوالي 75 مليار دولار، مجموع المساعدات الأميركية المقدّمة لأوكرانيا، خصّصت إدارة جو بايدن قرابة ثلاثة مليارات منها للإغاثة الإنسانية عبر الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID)، كما أنها تدعم البرامج الإنسانية لوكالات أممية عاملة هناك، مثل "يونيسف"، والمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، والمنظمّة الدولية للهجرة، ومنظمّة الصحة العالمية، بذريعة الكارثة الإنسانية المترتّبة على الغزو الروسي المستمر. أيضاً، تضع الولايات المتحدة إصبعاً آخر في عين الصين عبر إصرارها على الاستمرار في تقديم مساعدات عسكرية لجزيرة تايوان بقيمة ملياريّ دولار سنوياً غير آبهة بتنديد بكين وتهديداتها. بمعنى أن الولايات المتحدة قادرة، إن أرادت، أن تتجاوز اعتراضات وعقبات تضعها قوى كبرى وعظمى على خصام معها إن كان لها مصلحة حيوية. أبعد من ذلك، تتصرّف الولايات المتحدة كـ"بلطجي"، حين تشاء، تدوس بقوتها العسكرية وأدوات الإخضاع الاقتصادي والسياسي التي تملكها سيادة الدول، لا تلقي بالاً للقوانين والمعاهدات والاتفاقات الدولية. رأينا ذلك، وما زلنا، في هجماتها العسكرية داخل دول مختلفة، من دون تفويض ولا إذن، كما في سورية والعراق واليمن وباكستان، كما نراه واقعاً في العقوبات الاقتصادية الخانقة، كما على إيران وروسيا وكوبا وفنزويلا. لكن، عندما يتعلق الأمر بإسرائيل، تصبح واشنطن فجأة عاجزة أمام دولة الأصلُ أنها وكيلٌ لها، وتتذكّر مبدأ ضرورة احترام سيادة الدول، أي سيادة إسرائيل!
منذ قرابة أربعة شهور وإدارة بايدن تستجدي رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، السماح بإدخال مزيد من المساعدات الإنسانية عبر البرِّ إلى قطاع غزّة الذي يتعرّض، منذ أكثر من خمسة شهور، لجريمة إبادة إسرائيلية، ويقول خبراء إن سكّانه الذين يتجاوزون مليوني إنسان يعيشون أسوأ مجاعة عرفها العالم منذ الحرب العالمية الثانية. وعلى الرغم من أنه ما كان لإسرائيل أن تستمر في جرائمها في قطاع غزة لولا الدعم والتمكين الأميركي المطلقين والمستمرّين، إلا أن نتنياهو، حسب تعبير السيناتور الديمقراطي كريس فان هولين، لا يتردد أبداً في "إعطاء الإصبع الوسط لبايدن" في كل مرّة. طبعاً، استجداءات بايدن هنا ليست تعبيراً عن إنسانية أو صحوة ضمير متأخّرة لديه، بل هي نابعة من حسابات انتخابية بالدرجة الأولى، خصوصاً بعد رسالتي ولايتي ميشيغن ومينيسوتا في الانتخابات الديمقراطية التمهيدية، حيث صوت 13% و20%، على التوالي، بـ"غير ملتزم" احتجاجاً على دعم إدارته للعدوان على غزّة، وهو الأمر الذي إن لم يتغير قد يكلفه الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل. لكن، نتنياهو الذي يتهمه خصومه بأنه لا يبالي بمصالح إسرائيل في سبيل نجاته سياسياً، لا يبالي كذلك بمصالح أميركا، ولا حتى حليفه الذي وقف معه وبجانبه شريكاً في العار في جريمة إبادة بشعة يتابعها العالم كله بشكل حيٍّ ومباشر.
يمكن تسطير الكثير عن التواطؤ والشراكة الأميركية الكاملة في جريمة الإبادة في غزّة
يوم السبت الماضي (2 مارس / آذار)، وبعدما يئس بايدن من نتنياهو، انضمّت الولايات المتحدة إلى مجموعة دول أخرى، كالأردن ومصر وفرنسا، في إنزال مساعدات إنسانية على قطاع غزّة جواً. "لقد رأيت إسرائيل تهين الإدارات الأميركية السابقة، ولكن باستثناء الهجوم الإسرائيلي القاتل عام 1967 ضد مدمّرة البحرية الأميركية ليبرتي، يعد إجبار واشنطن الآن على القيام بإسقاط جوي للمساعدات على غزّة، كما لو أن أميركا ليست أفضل من مصر والأردن، هو أسوأ إذلال إسرائيلي للولايات المتحدة أراه في حياتي". كان هذا تعليق السفير الأميركي السابق روبرت فورد على ما قامت به إدارة بايدن. وحتى لا يذهب حسن النيات ببعضهم بعيداً، فإن عمليات الإنزال الجوي هذه، سواء من الولايات المتحدة أم الدول الأخرى، فضلاً عن أنها ضئيلة وغير كافية بالمرَّة، إلا أنها لا تتم رغماً عن إسرائيل، كما تفعل واشنطن في حالتي أوكرانيا وتايوان، بل ضمن تنسيق تام معها، تحدد بموجبه تل أبيب المواد المسموح بها والمواد المحظورة، كالدواء وفلاتر المياه والأوكسجين ومستلزمات التخدير الطبّي، بذريعة أن لها استخداماً مزدوجاً.
المفارقة أن بايدن الذي قبل هذا الإذلال على نفسه من دولة طفيلية غير قابلة للحياة من دون دعم بلاده، ما زال ماضياً في تزويد إسرائيل بكل أنواع الأسلحة الفتاكة، بما في ذلك القنابل والصواريخ والقذائف، تنزل على رؤوس الفلسطينيين في قطاع غزّة من دون رقابة ولا محاسبة أميركية. أما سلال الطعام، التي وصفها سكوت بول من منظمة أوكسفام بـ"التافهة.. لإراحة الضمائر المذنبة لكبار المسؤولين الأميركيين الذين تساهم سياساتهم في الفظائع المستمرة وخطر المجاعة في غزّة"، فتحتاج إذناً إسرائيلياً. ومع ذلك، ما زال بايدن يبشّرنا بمزيد من "المساعدات الملقاة من الجو"، والتي هي، حسب مدير مجموعة الأزمات الدولية في الأمم المتحدة ريتشارد غوان "فرصة جيدة لالتقاط الصور والدعاية، ولكنها طريقة رديئة لتقديم المساعدات".
يمكن تسطير الكثير عن التواطؤ والشراكة الأميركية الكاملة في جريمة الإبادة في قطاع غزّة، لكن آلاف الصفحات في ذلك لا يمكن لها أبداً أن تغطي عارنا نحن العرب في ما يجري في القطاع الذي لم يعد أهله يجدون حتى علف الحيوانات وحشائش الأرض ليأكلوها، ويموت أطفالهم جوعاً أمام أنظارنا، في حين تقبع آلاف الشاحنات المحمّلة بالغذاء على الجانب الآخر من الحدود البرّية مع مصر. حقَّ علينا أن نطأطئ رؤوسنا عاراً وشناراً.