كاظم الغيظ في سبيل الانتخابات
يبدو أنّ رئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، أراد أنْ يجعل لاسمه نموذجاً في الواقع، ونصيباً مِن مقولة العرب "لكل امرئ مِن اسمه نصيب"، حين حذر المليشيات العابثة في بلاد ما بين النهرين مِن "الحليم إذا غضب". كأنه ساعٍ إلى مراقصة سحر الكلمات والتلاعب بها. ولكن محيطه، بمدوّنيه وفنانيه ونقاده، لم يتقبل سعيه فواجهه ساخراً. هم لم يأخذوا الأمر أخذا جدّياً، بل رأوه مزحة. مثلاً، رسم أحدهم كاريكاتيراً فيه رجلان، أحدهما الكاظمي مرتدياً قبعة أحيانا وواقفاً أمام آخر سمّي حليم، ليطلب مِن "حليم" ألا يغضب.
يبدو أنّ رئيس الحكومة العراقية حرّك ذاكرة صناعة النكتة السياسية، إذ عاد بعد أيام مِن "الحليم" قائلاً لصحيفة الغارديان، في زيارته أخيرا بريطانيا، إنه يواجه مخاطر المليشيات كعازف ناي للأفاعي، يراقصها ليبقيها تحت تأثير العزف. أضحكَ كثيرين مجدّداً، وبات العزف للأفاعي والناي والرقص مع الحيّات مدعاة السخرية أو الشفقة.
تاريخ النكتة السياسية في العراق مرتبط طبعاً بمرحلة ما قبل العام 2003. مثلاً، عزت الدوري، زعيم حزب البعث العراقي الذي مات قبل أيام، كان مِن أكثر الأشخاص إثارة للمزحة والنكتة في البلاد. وبعد ذلك، يعد ثاني رؤساء وزراء ما بعد 2003، إبراهيم الجعفري، الأكثر مثارا للسخرية في أوساط المشتغلين بالنكتة، كتاباً كانوا أم فنانين أم غير مشتغلين بالعمل الثقافي. خطاباته المقعرة سياسياً، وكأنها ألغاز من الكلمات أو مجهولٌ غير مفهوم من الأفكار، هي الأكثر إثارة للنكتة والمرح السياسي منذ تأسيس الدولة العراقية.
سجل مصطفى الكاظمي، في فترة قياسية، اسمه في تاريخ النكتة السياسية في العراق. رئيس الوزراء المحاط بمستشارين من الأوساط الصحافية والثقافية أكثر من أي حاكم عراقي، والمفترض أنه عارفٌ بشؤون الكلام وطريقته، كونه مرّ بتجربة عمل صحافي، يتصرّف بطريقة عاجزة تماماً عن إيجاد خطابٍ مُقنِع، أو على الأقل ينطوي على رؤيةٍ جادّة. وهو في فترة قياسية يفقد التعاطف، على الرغم من أنه بين القلائل الذين حصلوا عليه بحكم الظروف، وبحكم إيمان كثيرين بأنه وجه غير موال لولاية الفقيه الإيرانية. وقد تحوّل التعاطف لدى شريحة غير صغيرة إلى شفقة، ولدى أخرى إلى اتهامٍ بالمحاباة أو الخوف أو فقدان الجدارة.
سجل الكاظمي اسمه في تاريخ النكتة السياسية في العراق، رئيس وزراء محاط بمستشارين من الأوساط الصحافية والثقافية أكثر من أي حاكم عراقي سابق
غير أنّ للكاظمي وجهاً آخر. هناك محطاتٌ في مساره تستدعي التعامل معه بما هو أكثر مِن الاستسهال. شخصٌ لم يكن أبداً مثار اهتمام سياسي، ظلّ حضوره باهتاً حتى في أكثر الأوقات بروزاً وظهوراً، وفجأة استطاع أنْ يصبح رئيس جهاز المخابرات. بدون تاريخ أمني، وبلا مكانة في الصفوف المتقدمة للقوى السياسية النافذة، نجح في استثمار علاقته ببرهم صالح ومصاهرته أحد شخصيات حزب الدعوة الاقتصادية، وعملِ أخوه مستشاراً لرئيس الحكومة الأسبق، حيدر العبادي، قافزاً من كونه صحافياً إلى رئاسة أحد أكثر الأجهزة الأمنية حساسية. لذا، هناك ما هو أبعد من كونه مجرّد مثير للسخرية أو الشفقة. ثم أصبح، في لحظة عراقية منتفضة، رئيساً للوزراء. المفارقة أنه أفلح في إقناع حلفاء طهران في بغداد بدعمه، مع أنه مصنّف على حلفاء واشنطن. وأكثر مِن ذلك، زعيم الحشد الشعبي، هادي العامري، كان أحد عرّابي تسميته للمنصب. صحيحٌ أنّ التوقيت بدا معقداً وأعطاه درجةً من المقبولية، لم يكن ليحظى بها لولا ذلك، بفعل المظاهرات، وأيضا لمخاوف حلفاء إيران مِن مرشحين، أمثال عدنان الزرفي، لرئاسة الحكومة، إلا أنّ هذا لا يمنع النظر بكثير من التأمل إلى مسار الكاظمي، الصاعد بسرعة كبيرة إلى أعلى المناصب.
إلى جانب ما أظهر مِن ضعف أو إثارة للتهكم، يظهر الكاظمي رغبة صريحة في المحافظة على العلاقات اللازمة للبقاء في واجهة المشهد
وخلال حوالي ستة شهور من رئاسته الحكومة، إلى جانب ما أظهر مِن ضعف أو إثارة للتهكم، يظهر أيضا رغبة صريحة بالمحافظة على العلاقات اللازمة للبقاء في واجهة المشهد، والحصول على فرص العودة إليه عبر الانتخابات، أو عبر التحالفات المستقبلية. بمعنى آخر، جاء الضعف الذي أبداه الكاظمي جرّاء محاولته الحفاظ على المسافة الضرورية لحماية مستقبله سياسيا لا يريد خسارة كُرَاته، ويريد إبقاء قدميه في أكثر مِن مكان. وبتعبير ثالث، ليس هدف الكاظمي تسيير الحياة الاجتماعية والسياسية بما ينسجم مع مرحلة ما بعد الحركة الاحتجاجية منذ أكتوبر/ تشرين الأول من العام الماضي. أبداً هو لم يتصرف بموجب كونه وليد لحظةٍ منتفِضة، إنما انتهج ما يعاكسها، مسوِّفا ولا مباليا الوعود، لا يختلف في هذا وذلك عن سلفه عادل عبد المهدي. ما يربو إليه الحصول على جواز عبور بين كبار العملية السياسية في مستقبلها، وتحديداً في الانتخابات.
ومن جانب آخر، الرجل، نوعا ما، نسخة عن رئيس الوزراء الأسبق، حيدر العبادي، وتحديداً عام 2015، عندما أراد الاستفادة مِن الحركة الاحتجاجية ذلك العام، فقدّم ما عُرفت بحزمة الإصلاحات، لكنه لم يذهب إلى أبعد. وأيضا لم يتطوّر الكاظمي تطوراً يشبه زمن الحركة الاحتجاجية الأقوى في تاريخ العراق. بل المستشارون المحيطون به، وبعضهم ممن يُعَدون متنورين أو مدافعين عن التحولات الضرورية بعيداً عن سياسة القمع والتسويف والفساد، يكرّرون الأنساق نفسها مِن خطاب السلف. خطاب تخوين واتهام وإشارة بالبطش محاطة بمكياج النيات الحسنة ما يزال سائداً.
لقد اعتدت الآلة العسكرية والأمنية التابعة للحكومة، بعد وصول الكاظمي إلى رئاسة الوزراء، على المتظاهرين مرارا، على الرغم من أنّ زخم المظاهرات في عهده تراجع إلى مستوياتٍ متدنية جدا عما كانت عليه زمن سلفه. وجديد الاعتداءات في الذكرى السنوية الأولى للموجة الثانية من حركة تشرين الاحتجاجية. أزيلت الخيام، وفي بعض المدن، مثل البصرة، فُتحت الطرق المغلقة بقوة لم يفلح في استخدامها مَن سبقه.
اعتدت الآلة والأمنية التابعة لحكومة الكاظمي على المتظاهرين مرارا، على الرغم من أنّ زخم المظاهرات في عهده تراجع
هي النرجسية نفسها التي طبعت سادة المنطقة الخضراء في بغداد جاعلة إياهم عاجزين عن فهم الناس، الوعي بمجتمعهم، التعاملِ باحترام مع شعبهم .. لم يمتلك أي من السياسيين العراقيين، عقودا من السنين، عينيْن، تنظر إحداهما إلى الشركاء أو المعارضين، والأخرى إلى المجتمع. كانتا موجهتين إلى الخارج مِن جهة وإلى السياسيين، شركاء ومعارضين، من جهة أخرى. أما الشارع فمنسيٌّ، حتى لو كان هناك صندوق اقتراع أو انتفاضة. والسبب الأساسي أنهم لا يحترمون مجتمعهم، مهما تغنوا بشعبهم. هؤلاء يحتقرون العراقيين في ذروة انتفاضة العراقيين.
امتلك مصطفى الكاظمي فرصة جبارة ليستثمر لحظته، ما دام أعطى لنفسه الحق بأنْ يكون في واجهة المشهد، من دون رغبة بإرضاء الجميع كبائع يسوّق بضاعة باتت مُزجاة. الفرصة تمثلت بالذهاب بعيداً في احترام شعبٍ قدّم مئات الأضاحي من أجل التغيير، وأنْ يكون صورة عنه، لا أن يصبح مجرّد امتداد لعرّابَيْه: حيدر العبادي وبرهم صالح.