كاتم الصوت المقاوم

09 فبراير 2021

(مروان قصاب باشي)

+ الخط -

قبل إقامة نُصُب لقاسم سليماني أو سواه، في ضاحية بيروت، كان الأجدر بكاتم الصوت، صاحب "المجد"، أن يحظى قبل غيره بنُصُبٍ عملاقة يهيمن بها على الساحات العامة والأسواق وقاعات التدريس. فكاتم الصوت هذا يختزلها جميعاً. وبأنصاب كهذه، نستطيع مفاخرة الأمم، مقيمين الشواهد على مآثر عظيمة في التحرير والإنماء والبطولة ومكارم الأخلاق. وبإقامتها أيضاً، لا ندع مسيرة حافلة بالاغتيالات الظافرة تتقهقر بلا أثر وتغرق في النسيان.
ثمّة حاجة ملحّة، إذن، لتعميم هذه الأنصاب وتمجيدها أيضاً، من أجل ترسيخ حدود القبيلة وترهيب من تسوّل له نفسه الخروج على قطيع الطائفة، وعلى إملاءات الزرائب. وأشدّ بلاغةً من ذلك، لتبقى ذكرى حسن الصبّاح ومآثرُه راسخةً في النفوس ودعامةً من دعائم الهوية، ومدرسةً تَستوحي أمثولاتِها، جيلاً بعد جيل، سلالاتُ البطش والترهيب ودسّ السمّ في حليب الأطفال.
فمنذ أيام "الحشّاشين"، تبدلت تقنيات البؤس والجريمة. هكذا استُبدلتْ بالحشيشة حبوبُ الكابتاغون، كما استُبدِلتْ بخناجر الغدر كواتمُ الصوت، ما يتماشى مع حداثةٍ تستقلّ سيارات الدفع الرباعي، وتتقدّم بالهواتف المحمولة في الضواحي المكتظة بالمتبطّلين. تماماً كما استُبدِلتْ بخيول الغزو الدراجاتُ النارية تُغير على مسيرات الحريّة في سائر ساحات الوطن. تغيّرت الأدوات، وأما الغدر فبقي تحت الأحزمة، والدمُ يبقّعُ العمائم.
خطيئة المغدور لقمان سليم أنه اعتصم بالشجاعة في مواجهة الجبناء. أيها العزيز لقمان: تريد أن تقارع بالرأي من لم يُسجَّل له، مرّة واحدة، أنه جرؤ على مناظرة أحدٍ من مخالفي رأيه، منذ سنوات طويلة. كنتَ تريد أن تُقنع نفسك أن العقل واحدٌ عند جميع البشر، ولكن إلى أيّ عقل تحتكم، وقد انقفل بالخرافات وسُدّت منافذه على الحياة بركام الأساطير، وتحصّن بأوهام الهوية المعطوبة؟ كنت ترى أن الحرية قيمةٌ يشترك كل البشر في تقديرها وإعلاء شأنها. ولكن، كيف للحرية أن تتفتح بتلاتُها في الدهاليز التي لا يدخلها النور؟ وكيف لها أن تسلك في المعابر الضيقة بين عبادة الأصنام وتسليم الحياة برمتها إلى رؤوس القبائل؟ كيف لها أن تكشف عن نفسها حيث الابتسامة خطيئة أصلية، والأغنية ضعف، والوردة عار، والكبرياء وصمةٌ على الجبين؟
يا لقمان... "أين تجد هنا أرضاً لرأسٍ طليقٍ ويدَين حرّتين". عرفتَ قدر الحرية وقبضتَ عليها بالنواجذ، ولكن أمراً واحداً فاتك. كان عليك أن تعرف أن كاتم الصوت ليس مجرّد سلاح، إنه مأثرة لغوية، إنه جواب الجبناء الوحيد على أسئلة الأحرار.
لقد تدحرجت أخيراً، ولكنك لن تصل إلى القعر، فقد غرزتْ خُطاك حصونَها على الأدراج العالية. مانحاً مأثرة اغتيالك لمن يتحسّسون رقابهم كل صباح، ليتأكّدوا من غرقها الدؤوب في مستنقع المذلّة والمهانة، لتنسجم مع تحوّلهم إلى حشرات ضارّة. حشرات تزحف من دون أن ترتقي درجة واحدة من الدرجات التي بلغتَها في حبك المعرفة وشغفك بالعطاء وعشقك الحرية.
ستمضي الأيام بدون حرارة أنفاسك، ولكن القشعريرة ستمتد طويلاً على أجساد عارفيك من دون أن تبرد هممهم، كما مضت دائماً تاركة أجمل ورودها في أحواض الدم. ماذا عليّ أن أقول ليوسف بزّي أمام هذه الهشاشة. خمس رصاصات كانت أكثر من كافيةٍ لتنهي مغامرتك الشجاعة، في حين أن الأطنان من الحبر والورق والكدح قد لا تكون كافيةً لتحفيز أحد ممن تم تعقيمهم ضد الضياء وضد القشعريرة والألم، ليخطو خطوة واحدة نحو باب الخروج.
اسمع، يا لقمان.. بكاتم صوت أو بدونه، لم تكن محتاجاً لتطلق صرختك الأخيرة، فقد أفرغت حمولة صوتك الفائضة في كل المناسبات، وعلى جميع المنابر. لقد منحت المقاومة أنبل معانيها وأكثرها عمقاً ودلالة، مقاومة أعداء الحرية. وتركت لهؤلاء الأعداء يوطّدون من وراء الأقنعة أحلافهم مع كل أشكال الاستعمار والبطش والترهيب في أكبر مهرجان دموي للنفاق في تاريخنا المعاصر.
لقد غادرت بأسفٍ من غدر بك "بلا أسف"، لأن الينابيع الصافية التي أرضعتك ما تزال تتدفق بمودّة الآخرين، والتضحية من أجل أن لا تكون للعقيم سلالة، فيعزّ عليك تركهم كالبعوض عند الحوافّ المظلمة، يتغذّون من دماء العابرين. وكالبعوض "أعمارُ الطغاة قِصارُ".
كاتم الصوت لا يكتم أسراراً. هو لغة الجبان وفضيحته معاً. هو قناع المهزوم أمام الحقيقة. هو علامة العاجز في أن يصير صديقاً وأباً وجاراً يمتلك نافذةً يفتحها كل صباح على الشعاع، وركناً يسقي فيه وردة عطشى. لقد غادرت بأسفٍ شديدٍ من غدر بك "بلا أسف"، وقد تكون تلك آخر ما بحتَ به قبل أن يكتمك المسدس.

0994325B-4567-471E-81DA-5F1B1FA14B5C
0994325B-4567-471E-81DA-5F1B1FA14B5C
إميل منعم

رئيس القسم الفني في "العربي الجديد"، فنان تشكيلي

إميل منعم