09 فبراير 2021
محسن إبراهيم بطلاً تراجيدياً
مضى محسن إبراهيم من دون أن يودّع أحداً، والأرجح من دون أن يترك وصيةً لوريث. هكذا يغادر فتى المراحل الصاخبة بصمتٍ، تاركاً خلفه صفحاتٍ قُرِئت وأخرى لم تُقرَأ، وأسئلةً شتى، وميراثاً من مبادراتٍ ومواقف وتجارب وانتكاسات، وسجالاتٍ كانت ذات مرة محجّةً تُسنّ عليها الأفكار وتتلألأ. مضى تاركاً بَصْمةً على الكفاح السياسي صعبة الانمحاء، صاعداً في التراجيديا، خاتماً حياةً فريدةً على فراقٍ أليم، وبصمت عظيم الدلالة في تاريخ اليسار في لبنان والعالم العربي.
لا يهم البتة كشفُ حسابٍ عن تاريخ بليغ، ينطوي على ما ينطوي عليه كل تاريخ حي، من خطأ وصواب، فكثيراً ما يكون الخطأ صواباً جاء في غير أوانه. لقنتنا التجارب أن المهم في كل فكرة، وعلى الدوام، قدرتُها على التواصل والجري وفِعلُها في استثارة العقل واستنبات السؤال واستنهاض العزيمة، وتحفيز الرغبة في الكشف والتجدّد. هنا تمتلك كل فكرة جدواها وجوهر وجودها، وبهذا المعيار يحتفظ كل مسعىً بأثر من الطريق. كان محسن إبراهيم، على هذه الحلبة، طاقة إبداعٍ، ومن علامات ذلك الزمن الذي انفردت فيه مساحاتٌ واسعة للجدل والسجال، وشقّ المسالك، وتبادل الأفكار الحالمة بالحرية والعدالة. كان من أبناء التنوير ومن صانعيه، في زمن أطبقت على صدره، بإرثها الثقيل، حقبٌ معطوبةٌ بسلالات الطوائف ومخلّفات المستعمر وأخلاق القطيع.
كان حرّاً، واسع الخطوات، يعرف أن في البدء كان التغيّر، وأن الحركة ليست من صفات الحياة، بل هي الحياة نفسها. لهذا كان يتموضع ويُقلع، حيث تملي عليه رهاناته أمكنة التموضع وأزمنة الإقلاع. نحن الذين عبرنا ذات يوم تحت ظله المديد، في حقبة اليسار الناصعة، وتعمّدنا
بين يديه بشرف الدفاع عن قضية فلسطين، ونصرة كل مظلوم، كان شاهداً على عبورنا الأول إلى الإنسان فينا، وشاهداً أيضاً على بداية انتمائنا إلى الحرية. ها نحن الآن نشهد انسحابه المرّ من حياةٍ كانت ضيقة على عينيه وأحلامه. وبصمتٍ يحزّ الألم بالألم، نشهد انسحابه من الحياة، جارّاً خلفه قطار الأحلام الذي لم يصل. والعهود التي وقعها الرفاق بالعرق والدم، ويتنكّر لها من عانوا وطأة الطغيان ووعورة الدروب.
من كمال جنبلاط إلى جورج حاوي، غمز الموت جانبه مراراً، وحاذاه هول الاغتيال. فأمست خطواته على شفير. عاين كيف تسفّ أنظمة النفاق غبارَها على الرؤى، وتكسو بالوحول طريق فلسطين. تُفتّت بالحديد والنار أحلام أجيالٍ بحياة حرّة ومضاءة، لتقيم حواضرها على المستنقعات.
لا يُحسب السكوتُ سكوتاً حين لا تكون الحرية ضمان كل قول، فلماذا التهافت على فكّ اللغز عن صمته الطويل؟ فالذي كانه محسن إبراهيم، هو ذلك الفتى الذي سكب عمره يوماً بيوم، ليسقي شجرة أحلامنا، فلن يكون صمته، وهو يغادر إلى وسادته الأخيرة، إلا فعل إدانةٍ صاخبةٍ لعصر أرخى عنانه لكلاب الزمان ورعاة الأوبئة والجراثيم.
كان قد انسحب من يومياتنا منذ عقود، وكنا نتلمس، بألمٍ، القاعَ الذي بلغناه، والمستنقع الذي دُفعنا إليه، حين يُحشر في الهامش الضيّق بكل مستنير، ليحتل متنَ حياتنا الدعاةُ من كل صنف. ويستولي الدواجن على الساحات التي كانت مسرح السجالات الثرية بكل المعاني. ويكتسح المنابرَ من تخثّرَ الدمُ في عقولهم والعروق. هكذا يتمّ بأيدي "المقاومين" تشييد مجتمع التقهقر والعجز، من نقيع العقائد المنصرمة والخواء الممتلئ بخوائه. نعرف الآن طعم الحصار الذي
يضربه على العقلانية والتنوير هجوم الضواري التي تربّت في حظائر الاستبداد ووحولها. تنقضّ على فصل البهاء لتسدّ نوافذه المضيئة بالدم والرصاص.
كان كبيراً، رفَعَ خيبته إلى مصافّ الجلالة وصمت. انزوى يتأمل خيانة التاريخ ووعوده الكاذبة. وفي وطن تحوّله الأحذية العسكرية والعمائمُ المفتونة بالغروب إلى قبر تعبر فيه الكلمات تحت الأزيز، لا تنبئنا سنوات محسن الأخيرة سوى أنه كان سجيناً سياسياً بامتلاء المعنى.
لقد رأى أن الأيدي التي تُمسك بالأعناق تخرج من تحت الأسرّة، ولا تحتاج إلى الأساطيل، ولا إلى الصواريخ العابرة للقارّات. رأى أن ذبح فلسطين بالأناشيد والخطب المنافقة أقل مشقةً وكلفةً على مصادريها من استعادتها بمجتمعاتٍ تخصب بنشر الوعي وتعميم الحرية.
رأى ذلك كله وعايشه وعرف من تحويل الاستعمار إلى "استكبار" أن اللغة التي صاغ بها رؤاه تتعثر وتغوص في ماض جاهلي، من علاماته انتعاشُ المديح والهجاء، وليس إنتاج أفكار تسعف الحالمين بمجتمعاتٍ عادلة وحرّة وكريمة.
لا، لم يكن الزمان بخيلاً إلى هذا الحدّ. ولم يكن التاريخ عقوقاً بالذي ربّى على مفارقه نبتة الأمل ورعاها بيدين خصبتين. رأى ما رآه، ولا تنقصه الحكمة ليرى في براعم الربيع العربي التي لاحت أن الأرض تدور، والحياة تستأنف فيضانها فوق سدود الانحطاط وحصون الاستبداد المنيعة. لا لم تنقصه الحكمة، ليرى في شوارع بيروت الأقدام التي تسعى وعليها بعض ما علق من غبار دروبه، وفي الحناجر الصادحة وتراً من أوتار صوته. لا بد أنه لمح دنوّ
الأصابع التي ستقشر عن الثمرة الندية ما علق بها من خطابات الشقاق والتفسّخ، وتعيد الوطن إلى أهله عارياً من كل عفن.
عندما تصبح الكرامة مهدورةً في الشوارع، وأجملُ الأحلام متروكا للذبول، وتقام أعراس النصر فوق جثث الضحايا، لا يسعنا إلا أن نكفّ عن وداع محسن إبراهيم لنبقيه حاضراً بصوابه وخطئه، فما أنكره عليه التاريخ لن يتيحه لأعدائه.
تتجلى مأساته ببساطة، في تلك الحيرة بين دعوته جورج حاوي إلى سهرة مع رفاق الأمس في أحد منازل مرجعيون، أم تلبية دعوة سمير قصير، إلى جلسةٍ مع عبد العزيز الخيّر، في أحد المقاهي الدمشقية.
مضى من دون أن يحسم الأمر.
كان حرّاً، واسع الخطوات، يعرف أن في البدء كان التغيّر، وأن الحركة ليست من صفات الحياة، بل هي الحياة نفسها. لهذا كان يتموضع ويُقلع، حيث تملي عليه رهاناته أمكنة التموضع وأزمنة الإقلاع. نحن الذين عبرنا ذات يوم تحت ظله المديد، في حقبة اليسار الناصعة، وتعمّدنا
من كمال جنبلاط إلى جورج حاوي، غمز الموت جانبه مراراً، وحاذاه هول الاغتيال. فأمست خطواته على شفير. عاين كيف تسفّ أنظمة النفاق غبارَها على الرؤى، وتكسو بالوحول طريق فلسطين. تُفتّت بالحديد والنار أحلام أجيالٍ بحياة حرّة ومضاءة، لتقيم حواضرها على المستنقعات.
لا يُحسب السكوتُ سكوتاً حين لا تكون الحرية ضمان كل قول، فلماذا التهافت على فكّ اللغز عن صمته الطويل؟ فالذي كانه محسن إبراهيم، هو ذلك الفتى الذي سكب عمره يوماً بيوم، ليسقي شجرة أحلامنا، فلن يكون صمته، وهو يغادر إلى وسادته الأخيرة، إلا فعل إدانةٍ صاخبةٍ لعصر أرخى عنانه لكلاب الزمان ورعاة الأوبئة والجراثيم.
كان قد انسحب من يومياتنا منذ عقود، وكنا نتلمس، بألمٍ، القاعَ الذي بلغناه، والمستنقع الذي دُفعنا إليه، حين يُحشر في الهامش الضيّق بكل مستنير، ليحتل متنَ حياتنا الدعاةُ من كل صنف. ويستولي الدواجن على الساحات التي كانت مسرح السجالات الثرية بكل المعاني. ويكتسح المنابرَ من تخثّرَ الدمُ في عقولهم والعروق. هكذا يتمّ بأيدي "المقاومين" تشييد مجتمع التقهقر والعجز، من نقيع العقائد المنصرمة والخواء الممتلئ بخوائه. نعرف الآن طعم الحصار الذي
كان كبيراً، رفَعَ خيبته إلى مصافّ الجلالة وصمت. انزوى يتأمل خيانة التاريخ ووعوده الكاذبة. وفي وطن تحوّله الأحذية العسكرية والعمائمُ المفتونة بالغروب إلى قبر تعبر فيه الكلمات تحت الأزيز، لا تنبئنا سنوات محسن الأخيرة سوى أنه كان سجيناً سياسياً بامتلاء المعنى.
لقد رأى أن الأيدي التي تُمسك بالأعناق تخرج من تحت الأسرّة، ولا تحتاج إلى الأساطيل، ولا إلى الصواريخ العابرة للقارّات. رأى أن ذبح فلسطين بالأناشيد والخطب المنافقة أقل مشقةً وكلفةً على مصادريها من استعادتها بمجتمعاتٍ تخصب بنشر الوعي وتعميم الحرية.
رأى ذلك كله وعايشه وعرف من تحويل الاستعمار إلى "استكبار" أن اللغة التي صاغ بها رؤاه تتعثر وتغوص في ماض جاهلي، من علاماته انتعاشُ المديح والهجاء، وليس إنتاج أفكار تسعف الحالمين بمجتمعاتٍ عادلة وحرّة وكريمة.
لا، لم يكن الزمان بخيلاً إلى هذا الحدّ. ولم يكن التاريخ عقوقاً بالذي ربّى على مفارقه نبتة الأمل ورعاها بيدين خصبتين. رأى ما رآه، ولا تنقصه الحكمة ليرى في براعم الربيع العربي التي لاحت أن الأرض تدور، والحياة تستأنف فيضانها فوق سدود الانحطاط وحصون الاستبداد المنيعة. لا لم تنقصه الحكمة، ليرى في شوارع بيروت الأقدام التي تسعى وعليها بعض ما علق من غبار دروبه، وفي الحناجر الصادحة وتراً من أوتار صوته. لا بد أنه لمح دنوّ
عندما تصبح الكرامة مهدورةً في الشوارع، وأجملُ الأحلام متروكا للذبول، وتقام أعراس النصر فوق جثث الضحايا، لا يسعنا إلا أن نكفّ عن وداع محسن إبراهيم لنبقيه حاضراً بصوابه وخطئه، فما أنكره عليه التاريخ لن يتيحه لأعدائه.
تتجلى مأساته ببساطة، في تلك الحيرة بين دعوته جورج حاوي إلى سهرة مع رفاق الأمس في أحد منازل مرجعيون، أم تلبية دعوة سمير قصير، إلى جلسةٍ مع عبد العزيز الخيّر، في أحد المقاهي الدمشقية.
مضى من دون أن يحسم الأمر.
دلالات
مقالات أخرى
01 أكتوبر 2018
17 اغسطس 2018