كأنّ السوريين في لبنان للنزهة حتّى يُرحّلوا
لم يكن ينقص السوريون في لبنان، في ظلّ الهشّاشة الأمنية والفراغ الرئاسي منذ سنة وخمسة أشهر، والضعف الأمني في الداخل وعبر الحدود، ومخاوف امتداد الصراع في غزّة إلى لبنان، والفقر والفاقة التي يعيشها غالبية اللاجئين السوريين إلى لبنان، سوى جريمة قتل منسّق حزب القوات اللبنانية، باسكال سليمان، في منطقة جبيل في جبل لبنان، لتكتمل فصول معاناتهم وخوفهم، وهو ما أثّر بعمق في التفاعلات السياسية والشعبية، وردات الأفعال تجاه السوريين عامة، عدا نذير شؤم لصراعٍ طائفي جديد في لبنان، في ظلّ احتقان سياسي وإعلامي تتصاعد وتيرتُه، مع مخاوف حقيقية من وصولها مرحلة لا يمكن معها السيطرة عليها، خاصّة مع مخاوف كبيرة حيال انعكاسات أي ردٍّ انتقامي على استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق خلال إبريل/ نيسان الجاري، ووصول تأثيرات ذلك الرد إلى لبنان، مع تباين المواقف والمقاربات للفاعلين السياسيين والعسكريين اللبنانيين للحرب على غزّة وتأثيرها في البلاد.
اللاجئون السوريون في لبنان، وفي بيان لهم، دانوا جريمة قتل باسكال سليمان، وأعلنوا براءتهم من كل ما يتسبّب بأذية الشعب اللبناني
وأمام كُل ذلك البلاء، يتحمّل اللاجئون السوريون تبعات وتداعيات ذلك الاغتيال، خاصّة أنّ تراشق الاتهامات بين الأطراف اللبنانية، يوقظ شياطين ردات الفعل العام على الجميع، فحزب القوات قال إنها "اغتيالٌ سياسي" للقيادي حتى إثبات عكس ذلك. في حين، تحدّث مناصرو الحزب وأعضاؤه، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عن ضلوع حزب الله في العملية، ويَتَّهِمُ الأخير الكتائب بالسعي إلى "الحرب الأهلية". لكنّ الممارسة الفعلية الحقيقية هي تصاعد الانتهاكات ضد اللاجئين السوريين، وتعرّض عدد منهم للاعتداء المباشر، أو الدعوة إلى ترحيلهم، أو إخراجهم من بيوتهم ومحلاتهم وطردهم من المنطقة، أو التحريض الحكومي، وإرسال تهديدات لإخلاء بعض المناطق، كما حصل في منطقة برج حمّود، ومنطقة زوق مكايل في كسروان، حيث أُلقيت منشوراتٌ ورقية في الساحات والطرقات تطالب بخروج اللاجئين، اشتعلت بعدها حرب البيانات والتصريحات، تُرسّخ في مُجملها التنمّر وخطاب الكراهية والدعوة المبطّنة والصريحة للعنف ضد اللاجئين، وصلت إلى مستويات رسمية، كما في حالة وزير الداخلية اللبناني، بسّام مولوي، الذي طالب بكثير من التشديد في تطبيق القوانين على اللاجئين للحد من الوجود السوري في لبنان بشكل عملي وواضح. والأكثر فداحة وصلافة تمثّل في زعم وزير المهجّرين، عصام شرف الدين، وجود "20 ألف مسلح وخلايا إرهابية نائمة داخل مخيّمات اللاجئين ينتظرون ساعة الصفر والإشارة من واشنطن لتقويض الأمن في سورية، لمآرب سياسية تخدم الدول الغربية". كما لم تخرج دعوة حزب القوات لخروج السوريين من لبنان عن ذلك الإطار وعن الدعوة إلى عودة اللاجئين إلى ديارهم، متحجّجين باستتباب الأمن في مناطق سيطرة النظام أو مناطق سيطرة الجيش الوطني السوري، مع رفض بيانه الحقد والهمجية ضد السوريين، وكأنّ الوضع الأمني والمعيشي والسياسي في سورية مستقر ومُستقطب للعمالة الأجنبية والسيّاح، ويُعتَبَر رمزاً للعدالة الاجتماعية والديمقراطية حتى يحفّز الفارين من جحيم الحرب والموت على العودة إليها. اللاجئون السوريون في لبنان، وفي بيان لهم، دانوا جريمة القتل، وأعلنوا براءتهم من كل ما يتسبّب بأذيّة الشعب اللبناني، أو مخالفة القوانين اللبنانية، وأنّ وجودهم مؤقت، وسينتهي مع توفّر ظروف العودة الآمنة.
أي فعل صغير مخالف لقانون يُتهم به النازحون السوريون سيُترجم انفلاتاً سلوكياً على الأرض ضدّ السوريين
الواضح أنّ القواعد الاجتماعية في لبنان منقسمة حيال الوجود السوري منذ البداية، وتوالت الحوادث التي عمّقت بشدّة ذلك الانقسام، لكن حادثة القتل هذه لعبت دوراً بارزاً في جذب مزيد من اهتمام القوى الأمنية والسياسية لوجودهم، تحوّل لاحقاً إلى هوس لدى قطاعاتٍ شعبية تحاول اتهام جميع السوريين الموجودين في لبنان، لترتبط الاعتداءات عليهم مع نتائج التسعير العنصري الذي استلمت ناصيته قوى سياسية تعارض الوجود السوري في لبنان عبر حسابات انتخابية وطائفية. ومع اشتداد الخطاب والتحريض، فإنّ أي فعل صغير مخالف لقانون يُتهم به النازحون السوريون سيُترجم انفلاتاً سلوكياً على الأرض ضدّ السوريين، وهو بدوره يُساهم في حصار جميع المنافذ المتبقية للتعددية والتنوع الثقافي والسياسي والإنساني. بالتأكيد، تسبّب ملفّ النزوح بضغط اجتماعي كبير، لكنّ السوريين في عموم دول اللجوء الإقليمي، خاصّة من لم تتوفّر لهم ظروف معيشة جيدة، وظلّوا بلا عمل أو دراسة، أو لم يحصلوا على تأشيرات للهجرة النهائية، ربما لن يدّخروا وقتاً وجهداً للهجرة العكسية لو سنحت لهم فرصة العودة، لكنها عودة مرتبطة بتبني خطط واضحة للانتعاش الاقتصادي المبكّر، وإعادة الإعمار، والتسوية السياسية، وضمانات صُلبة بعدم الملاحقات الأمنية، وإعادة تأهيل البنية التحتية، وتوفير فرص العمل، وكل ذلك مرتبط بدعم عربي حازم، وتدخّل المجتمع الدولي والمنظّمات الدولية، وكلّ ذلك مفقود أو ضعيف إلى الآن، فكيف يُطلب منهم العودة بخطابات عنصرية ومواجهات مباشرة؟ وإذا كان السوريون في الداخل هم أنفسهم يبحثون عن مخرج للهروب والهجرة، وإنقاذ ما تبقى من أعمارهم والأعوام المهدورة من حياة أبنائهم، فكيف يُطلب من مجتمع النزوح العودة إلى حيث المجاعة والكارثة المعيشية؟
موقف السلطة في لبنان تجاه دعوات القصاص الجماعي لمقتل باسكال سليمان قد لا تقلّ فظاعة عن جريمة القتل نفسها
ما يزيد من فظاعة المشهد هو الصمت المدوّي من قسم من الناشطين والصحافيين والمجتمع اللبناني بشكل عام، وإن على عكس قسم من أصوات إنسانية وعادلة تدعو إلى الفصل بين أنسنة اللجوء، ووجود جماعات مسيئة تتحرّك وفق أجندات معيّنة لتسريع وتيرة الصراعات الأهلية والمذهبية. لكنّ الموقف الرسمي للسلطة في لبنان تجاه دعوات القصاص الجماعي، قد لا تقلّ فظاعة عن جريمة القتل نفسها، وربما تفوق فظاعة العنصرية وحملات الترهيب والكراهية ضد اللاجئين السوريين في لبنان، خاصّة، أنّها تكتفي بالمشاهدة أو بالخطابات الشعبوية، وتقدّم سردية لا تُؤَمّن الحماية للنازحين، وهم أضعف حلقة في المعادلة كلها. فهل البطولات الكلامية ستجلب الحلّ الأمثل للبنان أم المزيد من المعاناة والاحتقان؟ وإذا كانت الحكومة في لبنان جادّة وصادقة في فرض الأمن واستتبابه، فإنّ التضامن العميق والحقيقي هو مع الشرائح التي تخشى على حياتها حتّى وهي مختبئة في منازلها.
وفي تفكيك رواية أسباب القتل بالجريمة السياسية أو بدافع السرقة، يُمكن القول إنّ العقل البسيط سيبحث في أسباب نقل الجثّة إلى سورية، ثم كشفها، وهل هو لزرع إسفين العنصرية والتفرقة بين السوريين النازحين والمجتمع اللبناني الذي انجرّت إليه قطاعات غير قليلة أصرّت على ترحيل السوريين، في ظلّ الأزمة الاقتصادية المميتة التي يعيشها اللبنانيون، وإشغال الرأي العام عن مواضيع أخرى ترتبط بغزّة وغيرها؟ المؤسف أنّ ما حصل نجح، وإن نسبياً، في إعادة فتح باب دعوات ترحيل السوريين، ونقل ملفّ النزوح من الإنساني إلى السياسي والأمني، ما هو جيد في الموضوع أنّه لا تعميم في مطلب الترحيل، واللبنانيون المُدركون لحجم الفتنة يعرفون جيداً ما يحدث.