لُبنان الذي يفيضُ موتاً

30 سبتمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

لن تكون المنطقة قبل اغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، كما بعدها، على الأقلّ بعد الموقف الإيراني الذي قرّر على حين غرَّة الالتفاف صوب مصلحة الشعب في الداخل، تاركاً حليفيه، حركة حماس وحزب الله، لمصيرهما المجهول أمام آلة الحرب الإسرائيلية. وغالباً، ستتجلّى الانعطافة الكبرى باحتمالية انسحاب القوات الإيرانية من سورية، لتحلّ محلّها القوات السورية والروسية، أو أنّ حرباً ضروساً وهجمات لا يُحمد عقباها، رُبما تشهدها ساحتا سورية والعراق. والواضح أنّ لا وحدة للساحات، ولا وحدة حال بين حلفاء الأمس، فموازين القوى المرعبة هي لمصلحة تلّ أبيب في ظلّ الضخّ الأميركي والغربي لصالحها، خاصّةً أنّ 12 عاماً من الحرب المتواصلة أرهقت الجميع، واستمرار قطار التطبيع العربي، الذي لن يقف بالضدّ من أيّ هجمات، لو حصلت.
ولا مبالغة في القول إنّ الحرب الأهلية اللبنانية لم تصل إلى هذا المستوى من الموت والدمار، آلاف الغارات التي شنّتها إسرائيل على مناطق عديدة من جغرافيا لبنان، التي لا رائحة فيها سوى رائحة الموت. وسلوكاً للتغطية على عمليات القصف، عممّت إسرائيل، عبر مختلف طرائق التواصل، مطالبةً إخلاء المرافق العامة، وهو السلوك الذي يسبق عادة كُلَّ عملية عسكرية غير محدودة. وبالمحصلّة، تحوّلت بيروت ومدن الشمال من مُستقطِبات للسُياح الأجانب إلى ملاجئَ ومآوٍ للفارّين من جحيم القصف، عدا عن اكتظاظ المستشفيات بالجرحى، وعن عشرات الآلاف من السيّارات العالقة في الازدحام والطرق العامّة، ودخل لبنان مرحلةَ الطوارئ والخطر في أعلى مستوياته، لكنّها ليست المرّة الأولى التي يُستهدَف فيها لبنان وبيروت. بيروت قِبلة المُحتاجين والفقراء والمُلاحَقين السياسيين، وإحدى الواحات النادرة للديمقراطية وحرّية التعبير في الفضاء العربي العام، ولا استغراب في استهدافها أو جرّها إلى الاستهداف، لتتحوّل من بلدٍ يفيض بالتحدّيات وهواجس المستقبل، بلداً يفيض موتاً.

أكبر الخاسرين في الحرب الجارية سيكون الإسلام السياسي، وسينحسر مدّه في أغلب دول الربيع العربي

رغم أنّ الحرب الإسرائيلية بدأت حلقتها الأولى عبر 360 يوماً من الحرب على غزّة، واغتيال إسماعيل هنيّة في طهران، ثمّ باستهداف قياداتٍ وعناصرَ لحزب الله عبر "هجمات البيجر"، تلاها استهداف اجتماع لأبرز القيادات الميدانية الوازنة والفاعلة في الملفّين السوري واللبناني، وهو ما شكّل إيذاناً للمرحلة الجديدة للعمليات العسكرية الإسرائيلية ضدّ حزب الله. لكنّ الحقلة الثالثة تحوّلت نقطةَ انعطاف في موازين القوى في المنطقة، لتبدأ معها الهجمات الصاروخية المباشرة على الضاحية الجنوبية، واللحظة الفصل تجلّت بعلمية اغتيال حسن نصر الله، ومع استمرار الحرب على غزّة، وغياب أيّ أفق لفرص وقف الحرب والقتال، فإنّ عدد القتلى والجرحى في تزايد مستمرّ، عدا عن تدمير البنية التحتيّة، وحركة النزوح الكثيف للمدنيين. وتالياً، تتّجه المنطقة نحو تحوّلات جيوسياسية جديدة لرسم خرائط أو فرض واقع جديد، لا فكاك منه، غالباً لن تكون في مصلحة أغلب القوى النافذة حالياً في العراق ولبنان وإيران وسورية، في حال أيّ تعنّت أو رفض.
ورغم ازدحام الحديث عن مبادرات إنسانية، سواء لغزّة وحالياً لأجل لبنان، بهدف احتواء التصعيد، لا احتمالات يُمكن عقد الآمال عليها، ما خلا الأعمال التطوّعية للأفراد والجمعيات الخيرية المحلّية أو الدولية على أمل التخفيف من أوضاع النازحين، الذين يعيشون ظروفاً اقتصاديةً وإنسانيةً قاسية، تلك الظروف التي اختبرناها ولا زال السوريون يعيشونها منذ أكثر من عقد، خاصّةً أنّ مئات آلاف المكلومين منّا يعيشونها في بيروت والشمال اللبناني.
أربع قضايا مُركّبة في جوانبها النفسية والسياسية، تتولّد من آخر هجمات على لبنان وجنوبه. أولاها الفشل العربي في الخروج بموقف واضح وصريح يُدين الهجوم الإسرائيلي على غزّة، هو نفسه الموقف الذي رُبما لن يتطوّر لما هو أبعد من الإدانة أو الموقف الإعلامي، إزاء الهجوم الحالي على لبنان، ما خلا مبادرات عربية فردية سواء في الأمم المتّحدة، أو عبر مواقفها الإنسانية. ثانيتها عدم مقدرة إيران على التدخّل المباشر، خاصّةً مع عدم الرغبة في الصدام مع أيّ دولة، والحفاظ على "مصالح الشعب الإيراني"، وغالباً لن تتمكّن من الردّ على الهجوم الذي طاول حسن نصر الله ولبنان، وما سبقه من تعرّض حركة حماس لأكبر كارثة في تاريخها، من حيث الأكلاف البشرية والعسكرية والاقتصادية، ولم تتلقَّ أيّ دعمٍ واضحٍ من حُلفائها، ويبدو أنّ حزب الله يمضي بخطوات ثابتة في الطريق نفسه. وثالثة تلك القضايا موقف بعض السوريين من الحرب وتجزئته، و"إخراج" الضاحية الجنوبية من الموقف الأخلاقي من هذه الحرب، بسبب ما فعلته قوات حزب الله في سورية، ما يقودنا إلى مزيد من حقول الألغام، ولأنّ الشماتة شعورٌ مرذول، وغير إنساني بداهةً، فإنّ الحرب والموقف الأخلاقي منها يجب ألا يتجزأ ولا يتبدّل، والأصح هو الكتابة والبحث في قضايا قانونية وسياسية، وفي السجل المدني، وشرحها وتفسيرها بما يُعيد للسوريين حقوقهم المسلوبة. أما القضية الرابعة، فمن الواضح أنّ السوريون ذاقوا الأمرّين من وجود قوات حزب الله في سورية، وتداعيات لجوئهم إلى لبنان. لكنّ الصورة انقلبت مُجدَّداً، وبعد حركة النزوح بسبب الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006، بدأت مُجدَّداً حركة نزوح آلاف اللبنانيين صوب سورية، لكن هذه المرّة، إلى أين تحديداً؟... فلا مكان صالحاً للاستقرار والعيش والنوم في أغلب المناطق الحدودية، أو في العمق السوري. وإذا ما استثنينا مراكز المدن وأحياءها، التي كانت تُوصف بـ"الراقية"، فإنّ المناطق التي شهدت معاركَ وحرباً ضروساً بين مختلف الفئات والفصائل العسكرية السورية واللبنانية أنهت الحياة هناك، ما يحول دون عودة اللبنانيين للعيش فيها، إلى حين انتهاء الحرب.
تداعيات هذه الحرب خطيرة، وتتجاوز الكلفة العسكرية والبشرية، لتضع حلفاء المحور الواحد أمام أصعب حالة نفسية وسلوكية، فمثلاً اعتادت الفصائل العسكرية العراقية الموالية لإيران سلوكيات الاصطفاف ووحدة الحال مع كلّ "طارئ" أو اعتداء على إيران وحلفائها، وهو ما كان يجرّ العراق إلى مراحل وأوضاع لا تخدم مساعي الاستقرار والأمان. في هذه الحالة، وبعد رؤيتهم لـ"حماس" ثمّ حزب الله وحيدَين في هذه الحرب، أين سيقفون، خاصّة أنّ واحداً من مراكز تفريغ الضغط النفسي عليهم، كان قصف إقليم كردستان، والذي خرج من دوائر الاستهداف بعد زيارة الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان أربيل، وهو ما يضع الحوثيين أيضاً أمام مواقفَ صعبةٍ بشّأن مصيرهم ومستقبلهم؟

انحسار مدّ الإسلام السياسي مُؤشّر قوي على رفض المجتمعات المحلّية سلوكياته ونبذه

في المحصلة، ومخرجاتٍ متوقَّعة لهذه الحرب، أكبر الخاسرين سيكون الإسلام السياسي، بشقّيه الشيعي المتمثّل بحزب الله، والسنّي المتمثّل في ما تعرّضت له حركة حماس، عدا عن انحسار مدّه في أغلب دول الربيع العربي، خاصّة مع الخسارات المتتالية للإخوان المسلمين، في مصر وكردستان والعراق وسورية وتونس، وفلسطين (حركة حماس). والواضح أنّ كلا النوعين (الطابعين) لم يُحقّقا الانسجام والتأقلم أو الاندماج مع تطلّعات القواعد الاجتماعية، الساعية إلى التنظيم الاجتماعي الحديث، والمنسجم مع مفاهيم العيش المُشترك والتعايش السلمي، والدولة المدنية، ورفض الشموليات. وبات من الممكن القول، إنّ انحسار مدّ الإسلام السياسي يُشكّل مُؤشّراً قوياً على رفض المجتمعات المحلّية سلوكياته ونبذها.
والواضح أنّ تشعّب مصادر القرار السياسي والعسكري، ووجود جماعاتٍ من حملة السلاح خارج نطاق الدولة والدستور، الذي يُجيز (وفقاً لشكل الدولة ونظام الحكم) تسليحَ وتنظيم القوات العسكرية، ستكون أولى الجهات المُستهدَفة. عدا عن أنّ المجتمعات المحلّية غير مُستعدَّةٍ لإعادة التجربة مُجدَّداً، أو العودة صوب المُربّعات الأولى، التي أذاقتهم الأمرّين، ونسفت أعمارهم ومستقبل أجيالهم اللاحقة، إزاء مفاهيم المواجهات والخُطب الشعبوية. وبات من المُلحّ القول والعمل على التأسيس المرحلي، وعوضاً عن تمييع التعليم والسياسة والاقتصاد والمجتمع، ووضع بذور فشله في صُلب نظامه؛ خدمةً للأنظمة والسلطة، لا بدّ من بناء المواطن في تلك البلاد، ذلك المواطن الذي تحوّل مسخاً، ويحمل من ذكريات الدمار واللجوء والنزوح والدماء ما لا طاقة للجبال بتحمّلها. ولعلّ المجتمعات المحلّية تقول: متى ينتهي هذا المشهد التدميري في حياتنا، ولم يعد لهم من طاقة لتحمّل مزيدٍ من الخسارات والانكسارات، ثمّ الاكتفاء بالاستماع للوعود لا غير.