كأس العالم... الاستشراق وإسرائيل
لا شيء يعلو فوق كرة القدم، هذا حال العالم حاليا؛ فقد تراجعت مؤقتا أخبار الحرب الروسية الأوكرانية، وتراجعت أخبار ارتفاع أسعار الطاقة أو انخفاضها، وتُرك الناس يفترسهم التضخّم ومستوياته غير المسبوقة في كل البلاد، بعد أن توجه كل الاهتمام إلى كأس العالم في قطر، وما أثارته هذه النسخة من البطولة في الأيام الماضية من أحداث سياسية وثقافية استولت على اهتمام العالم أجمع. وتود المقالة الإشارة إلى ملاحظتين مهمتين عن علاقة هذه البطولة بقضيتين: الاستشراق والصراع العربي الإسرائيلي. وهما قضيتان تربطهما علاقة قوية الواحدة بالأخرى.
لم يكن الاستشراق منفصلا عن عالم السياسة والهيمنة منذ يوم نشأته؛ ولم يكن الاهتمام الثقافي للغرب بعالمنا الشرقي بريئا يوما ما، إذ لم يكن يجري بمعزل عن أطماعه الاستعمارية. ولكي نفهم ذلك، ربما كان علينا العودة خمسين سنة إلى الوراء، حينما كتب إدوارد سعيد كتابه الأهم "الاستشراق". يكتب سعيد أن علينا لكي نفهم الأفكار والثقافات والتاريخ أن ندرس القوة المحرّكة لها، أو دراسة تضاريس القوة أو السلطة فيها .. "فالعلاقة بين الغرب والشرق علاقة قوة، وسيطرة، ودرجات من الهيمنة". و"إن القيمة الكبرى للاستشراق تكمن في كونه دليلا على السيطرة الأوروبية الأميركية على الشرق أكثر من كونه خطابا صادقا حول الشرق". لم يكن الاستشراق إذا مدخلا لمعرفة الشرق من أجل التواصل الثقافي، وبعيدا عن الهيمنة الاستعمارية، بل كان رؤية سياسية للواقع، وكان بناؤها هو الذي يعزّز الفوارق بين المألوف الغربي والغريب الشرقي.
كان الاستشراق مدخلا من أجل الهيمنة على الشعوب، وكان مقدّمة للاستعمار؛ تماما ربما على النحو الذي قام به علماء اليونان في القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد (هيرودوت، وزينفون، واكتزياس) الذين جاءوا إلى الشرق لدراسة أحوال الشعوب والبلدان (بلاد النهرين، ومصر، وسورية، وغيرها). وهو الذي مهد لاحقا لاستيلاء اليونان على هذه البلدان وما وراءها على يد الإسكندر الأكبر وخلفائه فيما بعد. وبالتالي، يقوم أساس الاستشراق على فكرة استعلائية ترى الآخر دائما في مرتبة الأضعف، أو المتخلف الذي يحتاج إلى من يثقّفه، أو الفوضوي الذي يحتاج إلى من يعلمه النظام، والتمييز بين الصواب والخطأ. ومن هنا يظن الغرب أن لديه المبرّر الأخلاقي لكي يفرض نموذجه الثقافي وقيمه من أجل الأخذ بيد هذه الشعوب لكي يأخذها "هو" إلى الرقي الذي يراه، وهو مبرّر غير أخلاقي، لأنه يقوم على احتقار الآخر واعتباره عاجزا لا يملك من أمره شيئا.
أظهرت بطولة كأس العالم الحالية في قطر ذلك الوجه الاستشراقي الاستعلائي القديم والمتجدّد للغرب
النظرة الاستعلائية الغربية نابعة من رؤيته إلى الشرق متخلفا، ولا يستطيع تمثيل نفسه أو التعبير عنها؛ مثلما يقول كارل ماركس عن الشرقيين "لا يستطيعون تمثيل أنفسهم، ولابد أن يمثلهم أحد".
صحيحٌ أن ثمة فوارق كبيرة وجوهرية بين موقف الشعوب والحكومات الغربية من الشرق، لكن الموقف الذي رسمته دوائر الاستشراق التي كانت مموّلة من مؤسّسات رسمية وحكومية غربية قد أثر في الوعي الشعبي الغربي إلى حد كبير، وانعكس في الأدب والسينما، وفي أغلب، وليس كل، ما أنتجته الثقافة الغربية، فالعربي مثلا لا يكون عربيا إلا إذا ركب الجِمال، أو كان زير نساء ولديه حريم، أو كان مقامرا، أو مرتشيا فاسدا، أو إرهابيا، وفي المجمل، هو إنسان متخلف بعيد عن ركب الحضارة .. هذه هي الصورة النمطية التي روّجتها المؤسسات الثقافية والترفيهية عن العرب، ويقتنع بصحتها غربيون كثيرون.
لقد أظهرت بطولة كأس العالم الحالية في قطر ذلك الوجه الاستشراقي الاستعلائي القديم والمتجدّد للغرب، وأكّدت على أن المؤسسات العالمية، والفعاليات الدولية؛ بما في ذلك الرياضية منها، هي بالأساس لفرض أيديولوجيات الغرب ونموذجه الحضاري، الفكري والثقافي، على شعوب العالم. فصراع الحضارات والثقافات هو الأساس الذي تقوم عليه كل الفعاليات العالمية التي نشأت على أيدي الأميركان والأوروبيين. أما دعوى التعايش فلا تعني عند الغرب إلا القبول بالذوبان في هذا النموذج، وفقدان المجتمعات هويتها الثقافية، والقبول بما يقدمه الغرب في كل المجالات الدينية، والفكرية، والثقافية، وإن تصادمت مع قيم مجتمعاتٍ لطالما نظر إليها الغرب أقل شأنا، أو متخلفة ثقافيا، ولم يكن ذلك كله ليظهر بهذا الوضوح لولا هذا القدر من المقاومة الذي أبدته قطر.
إسرائيل ليست إلا كيانا منبوذا ومكروها من الشعوب العربية، وغير العربية في أحيانٍ كثيرة
ليس هدف المقال بث الكراهية تجاه الغرب، ولا الدعوة إلى القطيعة مع ثقافته، أو التوقف عن الاستفادة منها، لكنه يهدف إلى أن نفهم كيف ينظر إلينا الغرب على الحقيقة، وكيف يمكننا تغيير هذه النظرة السلبية إلينا في وعي شعوبها، وهو تغييرٌ لن يحدُث إلا حينما نعيد "نحن" بناء نموذجنا الحضاري، ونشعر بقيمة ما لدينا، وندافع عنه دونما خجل.
ولا يخفى أن نشأة الاستشراق قد ارتبطت، في جانب منها، بالبحث عن إسرائيل القديمة، ومحاولة تطويع التاريخ لإثبات أن وجودها القديم كان حقيقيا، وأن إنشاء وطن قومي لإسرائيل جديدة أمر ضروري، كما لا يخفى كذلك أن إسرائيل في الأعوام الأخيرة قد حقّقت إنجازاتٍ غير مسبوقة في مسألة تطبيع العلاقات مع دول عربية على المستوى الرسمي.
كانت إسرائيل تظن أن تطبيع العلاقات سوف يمحو تاريخها الاستعماري، وأن حالة العداء الدائم مع الشعوب العربية أوشكت على الانتهاء، وأن هذا التطبيع سوف يغير تلك الصورة السلبية في العقل الجمعي العربي، غير أن وقائع جرت أخيرا كشفت أن إسرائيل ليست إلا كيانا منبوذا ومكروها من الشعوب العربية، وغير العربية في أحيانٍ كثيرة.
تظل الشعوب الضامن الأكبر لمقاومة التطبيع والمحاولات الإسرائيلية لاختراقها أقرب إلى السراب وقبض الريح
في مقالهما في صحيفة يديعوت أحرونوت تحت عنوان "لقد فهمنا في قطر إلى أي درجة يكره العالم العربي إسرائيل"، ينقل الصحافيان الإسرائيليان، راز شكنيك وعوز موعلام، الموفدان من الصحيفة لتغطية المونديال، بعضا من المظاهر التي تؤكد حقيقة الكره العربي إسرائيل. يكتبان "بعد عشرة أيام في الدوحة، يجب أن نشارككم ما مرّ بنا هنا، نحن نشعر بأننا مكروهون، ونتعرّض لمشاعر العداء، وغير مرغوب فينا .. يرمقنا الفلسطينيون والإيرانيون والقطريون والمغاربة والأردنيون والسوريون والمصريون واللبنانيون بنظرات الكره ..". يحكي الصحافيان كذلك كيف اضطرّا، في بعض الأحيان، إلى إخفاء هويتهما والادّعاء بأنهما صحافيان من الإكوادور. ويقول شكنيك "سياسيا كنت دائما أنتمي إلى الوسط، فأنا ليبرالي وعندي رغبة بالسلام أكثر من الجميع، وكنت أظن دوما أن المشكلة في الحكومات والحكام، لكن في قطر رأيت كم يكرهنا الناس في الشارع، ورأيت إلى أي مدىً يثير كل ما يتعلق بإسرائيل حقدا شديدا في النفوس، إنهم يريدون محونا".
يلاحظ مشاهد التسجيلات المرئية للقاءات الصحافيين الإسرائيليين أنهما كانا يريدان افتعال أزمة ما مع الجماهير العربية الرافضة وجودهما، وأن سلوكهما كان استفزازيا وغوغائيا ولا يتناسب مع طبيعة عمل الصحافي الذي يفترض ألا ينجرّ إلى أي سجال يبعده عن القيام بمهام عمله، إلا إذا كان هذا الاستفزاز جزءا من مهمتهما.
خلاصة الأمر أننا حين نتأمل نتائج الجهود التي بذلها مستشرقون كثيرون، والصهاينة والسياسيون الإسرائيليون، طوال عقود لتثبيت الوجود الإسرائيلي في فلسطين، ودمجها في المنطقة، سوف نجد أنها ربما أثمرت من خلال تطبيع علاقة إسرائيل بأنظمة عربية حاكمة، لكننا حين ننتقل إلى المستوى الشعبي سوف نجد رفضا قويا للاحتلال الإسرائيلي، وأن الشعوب العربية تظل الضامن الأكبر لمقاومة التطبيع، والمحاولات الإسرائيلية لاختراقها أقرب إلى السراب وقبض الريح.