قيس سعيّد وتزوير الحقائق

23 ديسمبر 2022
+ الخط -

منذ انقلابه في 25 يوليو/ تموز 2021، لا يجيد الرئيس التونسي، قيس سعيّد، سوى تزوير الحقائق. اختار تدمير المؤسسات الديمقراطية، بوضع يده عليها، مبرراً الأمر بأنه في خانة "التدابير الاستثنائية الضرورية لإنقاذ الدولة"، وادّعى في حينه أنه اتخذ القرارات بعد التشاور مع رئيسي الحكومة ومجلس النواب. لم يتأخر يومها الردّ ليأتيه من رئيس مجلس النواب، الذي جمّد أعماله، راشد الغنوشي، إذ أكّد الأخير أنه لم تجر استشارته بشأن تفعيل الفصل 80 من الدستور، و"أن غير ذلك ادّعاء كاذب".
وبعدما تسلّح سعيّد بعبارة "لستُ من الانقلابيين"، ثبت سريعاً أن ممارساته تقود إلى استنتاج واضح ووحيد، أنه انقلابي ودكتاتوري من الدرجة الأولى، يضاف إلى ذلك أنه شعبوي نموذجي. .. استغل التخبّط الذي كانت تعيش فيه القوى السياسية، وعدم وضوح موقف العديد منها في معارضة خطواته لحسابات سياسية ضيقة، ولجأ إلى تصعيد إضافي، مصوّباً على الدستور وممهداً الطريق للبدء في مسار انقلابي جديد عبر طرح تغييره. مرّة جديدة، ادّعى أن ذلك يتم بالتشاور، مستحدثاً "استشارة إلكترونية" حظيت بمشاركة نحو نصف مليون تونسي، ورأى سعيّد أنها "كانت ناجحة رغم كل محاولات التشويه والتشكيك"، قبل أن تُظهر مجريات الاستفتاء والتعديلات التي أدخلها سعيّد مدى تمرّسه في الالتفاف على الحقائق، حتى أن رئيس هيئة إعداد الدستور، الصادق بلعيد، أعلن التبرّؤ من المسوّدة التي عرضت على الاستفتاء، قائلاً إنها "لا تمتّ بصلة إلى تلك التي وضعناها وعرضناها على الرئيس". وعندما خرجت نتيجة الاستفتاء ولم تتجاوز نسبة المشاركة فيه الـ30 % (جرى التشكيك يومها بهذه النتيجة)، دافع سعيّد من الشارع الذي خرج إليه للاحتفال مع أنصاره عن دستوره. ولذلك لم يكن موقفه من نتائج الانتخابات التشريعية أخيراً مفاجئاً.
بالنسبة لسعيّد، نسبة اقتراع تعادل 8.8%، حسب الأرقام الأولية قبل أن ترفعها هيئة الانتخابات إلى 11.22 %، ليست مدعاة للقلق. من منظوره، نسبة الاقتراع لا تُحدّد من الدورة الأولى بل بالدورتين. وذهب في هجومه إلى القول إن "من المفارقات التي تشهدها تونس هذه الأيام أن الذين يحاولون التسلل بأي طريقة كانت، فيهم فضلاً عن المتورّطين في قضايا عمالة وفساد، مَن لم يفز في الانتخابات التشريعية الماضية إلا ببضع عشرات من الأصوات أو ببقية باقية منها نتيجة لطريقة الاقتراع التي كانت معتمدة". مع العلم أن ملفات جلّ الذين يتعرّضون اليوم للتحقيق بعد إغداق التهم عليهم فارغة، ما يجعل من التنكيل السياسي التوصيف الأدق لكل ما يقوم به سعيّد بحقّ معارضيه. 
يرفض سعيّد الاعتراف، في أي لحظة، بأنه يقترف الخطأ تلو الآخر، وبأن صناديق الاقتراع حملت ما يكفي من الرسائل لمن يُريد أن يفهم. وإذا كانت أطرافٌ حزبية وقوى سياسية مناهضة لسعيّد أرادت تجيير نتائج الاقتراع لصالحها، فإن ذلك يصحّ جزئياً وليس كلياً. فالـ % 91.2، أو حتى أن قلةً من الـ88.78% الذين لم يتوجهوا إلى مراكز التصويت كانت تخرُج في مسيرات جبهة الخلاص وتظاهراتها أو أي تحرّك احتجاجي آخر، لكن هؤلاء يجمعهم تراجع اكتراثهم بالمسار الذي يفرضه سعيّد تباعاً. وبناء على مجريات الأحداث في تونس، يمكن توقع أن أي استحقاق قد يأتي ستنخفض نسبة المشاركة فيه أكثر، سواء اختار سعيّد الإقرار بذلك أم مضى في تجاهل كل ما يجري، تحديداً لجهة تراجع حاضنته الشعبية إلى حدودها الدنيا. ولكن حالة الإنكار التي يختبئ خلفها حالياً يصعب أن تدوم طويلاً، فمشكلة تونس اليوم ليست فقط سياسية على أهمية ما يجري. تنتظر التونسيين أيام صعبة على مختلف الجبهات، خصوصاً الاقتصادية، ولا يمكن تصوّر أن يكون تعاطي سعيّد معها سوى مزيد من تزوير الحقائق والانتقام السياسي، بعدما تبيّن أن ذلك أكثر ما يجيده.

جمانة فرحات
جمانة فرحات
صحافية لبنانية. رئيسة القسم السياسي في "العربي الجديد". عملت في عدة صحف ومواقع ودوريات لبنانية وعربية تعنى بالعلاقات الدولية وشؤون اللاجئين في المنطقة العربية.