قمران و7 أَهلّة أضاءت ليلَ غزّة

09 ابريل 2024
+ الخط -

مع بداية الشهر السابع، ومنذ 185 يوماً وليلةً (4444 ساعة) من حربٍ أطبقت فيها السماء على الأرض، وبدت للأمهات والآباء كأنّها الدهر، لم يعبر سماء غزّة المدلهمّ إلا الطائرات المُغيرات صبحاً، القاصفات على مدار الوقت، ولم يُنِرْ سديمها المستباح غير وهج الصواريخ الذكيّة والقنابل الغبية المتساقطة على البيوت المكتظّة بالبنات والأولاد، وغيرهم من صنف "الحيوانات البشرية" الضارية، كما لم يزرها أخ كريم في الجوار، ولم تمرّ فوق نقيع دمها إلا المركبات الحربية وعربات المدفعية الثقيلة، وأصحاب الخوذات المُدجّجين بالبنادق الأوتوماتيكية، وشهوة الانتقام والأحقاد التاريخية.
في خضمّ حرب الإبادة الجماعية، سطع في سماء غزّة، وعلى حين غِرَّة، قمران أزرقان وسبع أهلَّة بيضاء، تلألأت كأنّها الدرّ، وتراصفت إلى جانب فيض من شهب وكواكب ونجوم بلا حصر لإشعال فتيل سراج هنا، وإيقاد شمعة صغيرة هناك، كانت على ضآلة لمعانها، كافية لتبديد بعض من ظلام ليل غزّة النازف البارد اللزج الثقيل البطيء، وبعث شيء من الأمل القليل في نفوس رهط عدّائين أقوياء، كاد طولُ الركض بلا طائل في ممر الماراثون يُتعبهم.
أوّل القمرين الأزرقين المكتملين كان قمر الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، الدبلوماسي البرتغالي الطيّب النبيل، الذي أطلّ على ركام غزّة من معبر رفح الحدودي مرّتيْن أو قلّ طلع علينا بدراً تاماً جميلاً كبيراً، بكبر قمر الحصّادين في موسم جمع سنابل الحنطة في فلسطين، فبدا لنا الأمين العام، وهو يعلن صيامه التضامني مع الجائعين، رجلاً سيداً ذا سلطة ضميرية بيضاء من غير سوء، أميناً حقّاً، موظفاً سامياً متفرداً في المقام الأممي الأرفع. القمر الثاني كان قمر المقرّرة الخاصّة بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، قمر علا في السماء الغزّية الثانية، على هيئة سيدة إيطالية شجاعة، لا تخشى التخويف، وترفض الإسكات، فقدّمت للمنظمة الدولية تقريراً كاملاً متكاملاً عمّا توصّلت إليه تحقيقاتها المهنية، من وقائع جرمية وجرائم وحشية قارفها الاحتلال في القطاع المدمّر، فبدت لنا هذه الباحثة الحقوقية، ذائعة الصيت في جامعة جورج تاون الأميركية، صاحبة سلطة ضميرية يقظة قلّ نظيرها في المؤسسات الأممية. أما الأهلَّة السبعة البيضاء أو قل أصحاب الأرواح السبعة، المسكونة بمشاعر إنسانية خالصة من كلّ شائبة أو أنانية، فهم هؤلاء المتطوعون من وراء البحار، من منظمة المطبخ المركزي العالمي، ممن اغتالتهم قوات الاحتلال بدم بارد، وبتصميم ظاهر، لتفعيل حرب التجويع المتعمّدة، سلاحاً جهنّمياً ذميماً أو قل سلاحاً قروسطياً مرذولاً من أسلحة حرب الإبادة الجماعية، فطفق دمهم البريء على وجوه القتلة، حاصرهم من حيث لا يحتسبون، جرّدهم من كلّ زعم عن الجيش الأكثر أخلاقية، ونزع كلّ ما تبقى لها من شرعية مزعومة.
في زيارة غوتيريس الثانية إلى رفح، طافت في دواخل كثيرين بيننا مشاعر الامتنان الصامت حيال السيد الأممي الأول، وغمرنا، في الوقت ذاته، حسّ بالغ بالحرج، إن لم نقل الخجل والتواري، ونحن نستمع بحياء من أنفسنا إلى كلمة الأمين العام المتوسّلة، نتلمس فيها حرارة النبرة التضامنية وهو يلحّ على وقف إطلاق النار ورفع الحصار، فيما كانت دولة الاحتلال تطالبه بالاستقالة، وسط صمت مطبق، إذ لم يرتفع إلى جانبه صوت عربي مؤازر أو يشدّ على يديه إعلام مناصر أو يثني على مواقفه مثقف أو كاتب. ذهبت مطالبات غوتيريس برفع الحصار أدراج الرياح، كما مرّ بيان المقرّرة الخاصّة ألبانيز مرور الكرام أيضاً، شأنهما شأن غيرهما من رؤساء المنظّمات الدولية، غير أنّ دماء عمال الإغاثة السبعة من المطبخ المركزي العالمي، فاءت على غزّة فجأة، وأضاءت ليلها الطويل دفعة واحدة، فكانت بتداعياتها الهائلة بمثابة النقطة التي أفاضت الكأس، صنعت التحوّل الذي طال انتظاره، وربما أحدثت الفرق، وكتبت السطر الأول في دفتر الهزيمة الاستراتيجية لدولة تتعبد في محراب القوّة، لمجتمع انفجرت كلّ تناقضاته الداخلية وراح يتفكك، ولجيش فشل على مدى ستة أشهر في تحقيق أهدافه المعلنة.
وهكذا أوقعت هذه الواقعة الاستثنائية أحفاد يوشع بن نون في سياق تصادمي لا رادّ له مع الأغيار، وأوجدت دينامية تعمّق العزلة والكراهية والنبذ. ورسمت خطاً فاصلاً بين زمنين من عمر المذبحة، وقلبت الصفحة، إن لم نقل قلبت الطاولة على رؤوس القتلة، بدليل أنّها صدمت الجميع، بمن فيهم الصهيوني الكبير في البيت الأبيض، فقد ضيّقت عليه هامش المناورة، وحملته حَملاً على القول "كفى"، بعد أن صمت طويلاً على جرائم ربيبته المدللة. 

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي