قمة سمرقند للتحدّي لا للتصدّي

قمة سمرقند للتحدّي لا للتصدّي

22 سبتمبر 2022

اجتماع قادة قمة منظمة شنغهاي للتعاون في سمرقند في أوزبكستان (16/9/2022/Getty)

+ الخط -

شهدت سمرقند، عاصمة القائد المغولي تيمورلنك، يومي 15 و16 سبتمبر/ أيلول الجاري انعقاد القمة الثانية والعشرين لمنظمة شنغهاي للتعاون، وقد لاقت اهتماماً دولياً وإعلامياً كبيراً بسبب انعقادها في ظروف دولية خاصة، تتميز بالحرب الروسية على أوكرانيا وما خلفته من أزمات اقتصادية عالمية، وفي مقدمتها أزمة الطاقة، كما تأتي في ظل تصاعد التوتر بين الصين وتايوان المؤيَّدَة من الولايات المتحدة، فضلاً عن المناوشات العسكرية بين بعض أعضاء المنظمة نفسها حيث اندلعت، أخيراً، اشتباكات عنيفة بين طاجكستان وقرغيزستان. تضم "منظمة شنغهاي للتعاون" ثماني دول؛ الصين وروسيا، ثم كازاخستان وقرغيزستان وطاجكستان وأوزبكستان، إضافة إلى باكستان والهند اللتين انضمتا إلى المنظمة سنة 2016، وأصبحت بذلك تشكل 42% من سكان المعمورة و22% من الثروة العالمية.

أُسّست المنظمة في 15 يونيو/ حزيران 2001 بمبادرة أولية من بكين، ومباركة من موسكو، كي تخلف "مجموعة شنغهاي" التي أسّست سنة 1996 تحت غطاء محاربة الإرهاب والتطرّف والحركات الانفصالية، بيد أن غرض الصين الأساس كان وما زال تأمين حدودها الشمالية بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والحدّ من تأثير استقلال دول آسيا الوسطى ذات الأغلبية المسلمة على شعب إقليم شين جيانغ الإيغور، ذي الأغلبية المسلمة، المتمتع بالحكم الذاتي، والذي عانى وما زال يعاني من دكتاتورية بكين المتعسّفة.

حظيت قمة سمرقند بتغطية إعلامية غير مسبوقة، لا لشيء، وإنما لجمعها بين أشرس أعداء الغرب من الزعماء، الذين يريدون تقويض النظام الدولي الغربي أحادي القطب الذي تتزعمه الولايات المتحدة، ويتخذ من مجموعة السبع ذراعه الاقتصادي ومن حلف الناتو ذراعه الأمني والعسكري، أولئك الذين لم يفوّتوا فرصة هذه القمة، للتحدّث بما يغيظ الغرب، ويفضح مخطّطاته ومشاريعه الرامية إلى الهيمنة والسيطرة على الدول، وجعلها تابعة له، خاضعة لنفوذه وسلطته، ومن ثمّة سمعنا تصريحاتٍ تندّد بالأحادية القطبية، وبمحاولات الهيمنة التي وصلت إلى حد الاستفزاز، والتهديد المباشر لمصالح بعض الدول الأعضاء الذي تمثل الأزمة الأوكرانية أحد تجلياته على أرض الواقع، باعتبار الحرب الروسية على أوكرانيا مجرّد ردة فعل روسية ضرورية لإبعاد خطر آتٍ أصبح يهدّد مصالحها وأمنها بمجالها الحيوي، حسب قولهم.

تتحدّث بكين بمنطق الشراكة لا الحلف، وتسلك سياسة براغماتية تبدي فيها التعاطف مع روسيا، لكنها لا تريد تحمُّل تبعات العقوبات الغربية عليها

ولكن التحول من أحادية القطب إلى ثنائيته، قبل تعدّده، لا بد له من زعامة تقوده. ولا يمكن لروسيا أن تتزّعم هذا الأمر لأسباب موضوعية وذاتية، وتاريخية، خصوصاً مع الهزائم التي تكبّدتها قواتها في أوكرانيا أخيراً. وعدم قدرتها على تحقيق أي من أهدافها العسكرية، وبالتالي، يمكن أن نزعم أن قمة سمرقند كرّست بدون أي شك زعامة الصين هذا المبتغى، وانحناء موسكو وراء هذه القيادة، اضطراراً لفك عزلتها الدولية، وللتخفيف من أضرار العقوبات الغربية عليها.

ظهر هذا جلياً في أثناء القمة التي جمعت بين الرئيسين الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين، فقد غابت مظاهر الغطرسة والكبرياء عن بوتين التي لطالما أبداها عند استقبال الزعماء الغربيين، وبدا كأنه يتلطّف بنظيره الصيني، ويتودّد له لدعمه ومساندته، مُثنياً على موقف الصين "المتوازن" من الأزمة الأوكرانية، ومؤكّداً وحدة الصين واعتبار تايوان جزءاً منها. أما الرئيس الصيني، شي جين بينغ، فله رأي آخر، فقد أكّد، في كلمته أمام نظيره الروسي، عن استعداد بلاده، بوصفها قوة عظمى، للعب الدور الريادي لتحقيق الأمن والاستقرار في مواجهة عالمٍ يتسم بالاضطرابات ويتغير باستمرار. وأضاف أن الصين مستعدّة للعمل مع روسيا لتقديم دعم قوي بعضهما لبعض في القضايا المتعلقة بالمصالح الأساسية لكل منهما، وتعميق التعاون البراغماتي في شتى المجالات. ولنسطّر هنا تحت كلمة "البراغماتي"، بما يؤكد الواقعية السياسية التي تنتهجها الصين منذ سنوات، وسمحت لها بتحقيق المعجزة الاقتصادية.

حقق النمو الاقتصادي الصيني في العشرين سنة الأخيرة نتائج لم يحققها أي اقتصاد آخر في العالم

يُلاحظ الفرق الشاسع بين كلمتي بوتين وشي جين بينغ، وبين استراتيجية الرجلين، فالأول يريد قلب الطاولة على الغرب والدخول في مواجهة مباشرة تحقق مآربه الشخصية والوطنية، أما الثاني فهو يعرف قوة بلاده الهادئة، ولا يحتاج إلى تهديدات. لا يريد أن يخاطر أو يجازف بمواقف لا طائل منها، ويريد الوصول إلى مبتغاه الريادي، بمساعدة الغرب نفسه، إذ ليس من مصلحة الصين الدخول في مواجهة مع أكبر شركائها الاقتصاديين، فالصين أصبحت منذ عامين الشريك الاقتصادي الأول للاتحاد الأوروبي قبل الولايات المتحدة، بما يناهز 700 مليار دولار، وتعرف ما قاسته في أثناء حكم الرئيس ترامب، حينما انتهج سياسة أدّت إلى تراجع الصين وتخليها عن موقعها شريكاً تجارياً أول مع الولايات المتحدة، وبالتالي، هي تعرف من أين تؤكل الكتف، وتقود سياسة القوة العظمى الهادئة.

حقق النمو الاقتصادي الصيني في العشرين سنة الأخيرة نتائج لم يحققها أي اقتصاد آخر في العالم، حيث انتقلت القيمة المضافة التي ينتجها الاقتصاد الصيني من 1.300 مليار دولار سنة 2001 إلى 14.300 مليار سنة 2020، أي أنها تضاعفت 11 مرّة في الوقت التي لم تتضاعف فيه القيمة المضافة للاقتصادين الأوروبي والأميركي إلا مرة واحدة من 8,9 مليارات إلى 19,6 مليار دولار في أوروبا، ومن 10,6 مليارات إلى 21.4 مليار دولار في أميركا، ما سمح للصين بتقليص الفجوة الاقتصادية؛ هي سياسة التسلق إلى أعلى بهدوء وحذر، من دون لغط أو صخب.

حققت قمة سمرقند هدفها الرئيس، إعطاء إشارات للغرب بوجود خيارات استراتيجية أخرى على الساحة الدولية

وعليه، هي تستعمل المنظمة أداة تأثير ونفوذ اقتصادي وتجاري بالأساس، علاوة على التنسيق الأمني الضروري، كما ذُكر آنفاً، لكن الصين تدرك أن الغرب لن يسمح لها بأكثر من ذلك، وإلا شن عليها حرباً اقتصادية شعواء، لا تريدها بكين حالياً. ولهذا تتحدّث بكين بمنطق الشراكة لا الحلف، وتسلك سياسة براغماتية تبدي فيها التعاطف مع روسيا، لكنها لا تريد تحمُّل تبعات العقوبات الغربية عليها، وهي تسلك السياسة نفسها مع غيرها، وهذا يفسر قبولها داخل المنظمة بوجود دول متنافسة ذات مصالح سياسية غير متجانسة ومتناقضة، بل بينها حروب وعداوات، مثل طاجكستان وقيرغيزستان أو باكستان والهند، أو إيران مستقبلاً، ما دامت هي المستفيدة من هذا التكتل.

انتهت إذن قمة سمرقند، وحققت هدفها الرئيس، إعطاء إشارات للغرب مفادها وجود خيارات استراتيجية أخرى على الساحة الدولية، وأن أبواب الغرب إذا أقفلت، فإن أبواب الشرق مفتوحة تنظر وتنتظر، وأن الاتجاه العالمي إلى الغرب قد يؤول لاحقاً إلى الشرق، بيد أن القمة التي ندّدت كثيراً، وأبدت في الكلام للغرب تحدّياً كثيراً، توقفت عنده ولم تجاوزه عمليّاً إلى مرحلة التصدّي.

69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
عمر المرابط
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط