قمة الناتو: ماذا بعد مدريد؟

09 يوليو 2022

الصورة الجماعية للمشاركين في قمة الناتو في مدريد (29/6/2022/Getty)

+ الخط -

وصفت مجلة "إيكونومست" قمّة مدريد، التي اختتمت أعمالها في 30 من الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، بأنها الأهم لحلف شمال الأطلسي منذ عقود، بسبب أنها شهدت إجماعاً كبيراً بين الدول الأعضاء حول عدة قضايا، منها الموافقة على انضمام كل من السويد وفنلندا للحلف، والاتفاق على التنسيق المشترك بين الحلفاء فيما يخص "التحدّي الروسي"، وهو ما جرى النص عليه في "الوثيقة الاستراتيجية" التي انبثقت عن الاجتماعات، واعتبرت، بشكل واضح، أن روسيا هي التهديد المباشر والأهم لدول التحالف التي يجب أن تستعد لكل الاحتمالات، بما فيها خيار المواجهة العسكرية.

تحدثت الوثيقة المفاهيمية الأطلسية أيضًا عن الصين مهدّدا لدول التحالف في ناحية المصالح والأمن والقيم، وإنْ ربطت ذلك أيضًا بروسيا، حيث اعتبرت أن البلدين ينسقان بشكل واضح على الساحة الدولية لضمان مصلحة بعضهما بعضا. ويخدم هذا التنسيق، وفق الوثيقة، معسكر الاستبداد، ويهدّد الديمقراطيات والنظام الدولي.

ساعدت القناعة بجدّية الخطر الروسي أيضًا على تمرير خطة إعادة الانتشار العسكري على حدود الجوار، لتصبح التمركزات العسكرية التي كانت موجودة في دول البلطيق وبولندا عقب الحرب الروسية الأولى على أوكرانيا في 2014، والتي امتدّت لتشمل سلوفاكيا ورومانيا والمجر وبلغاريا أكثر تعزيزًا. المراد من مخطّطات إعادة التمركز لم يعد ينحصر في الدفاع الرمزي، وإنما صار أقرب إلى إعادة إنتاج نظرية الردع المنتمية لزمن الحرب الباردة. وفي هذا السياق أيضًا، كان هناك تصريح لوزير الدفاع البريطاني، بن والاس، عن نشر تعزيزات في إستونيا، في حين أعلنت ألمانيا عن انتشار مماثل في ليتوانيا، وإن استخدم البلدان تعبيرات غير واضحة خلال حديثهما عن هذا الانتشار وفاعليته.

ردة الفعل الغربية على الغزو الروسي أوكرانيا أكثر جدية بكثير مما حدث في العام 2014، حين تركت أوكرانيا لتكون لقمة سائغة

الأميركيون، وعلى الرغم من أنهم تحدّثوا عن نشر قوات في رومانيا (كانت لديهم قوات بغرض مؤقت)، إضافة إلى قواتهم في بريطانيا وألمانيا وإيطاليا، إلا أنهم لا يزالون متّهمين بأنهم لم يقدّموا الدعم اللائق بحالة التهديد الراهنة.

تهدف خطة التعزيزات الأطلسية إلى رفع أعداد القوات من أربعين ألفاً إلى ثلاثمائة ألف جندي، يتوقع أن يكتمل توافدهم خلال فترة قصيرة، في حين ينتظر استلام المعدّات العسكرية والأسلحة النوعية بحلول العام المقبل. وسوف يجري تعيين الجنرال الأميركي، كريستوفر كافولي، قائدا أعلى للتحالف في المنطقة الأوروبية، وهو تأكيد جديد على الدور المحوري الذي تلعبه الولايات المتحدة، حيث سيكون مطلوباً منه التنسيق بين دول المنطقة، ووضع الخطط الاستراتيجية وإفادة الجميع بتقارير دورية حول الحالة الأمنية.

مهما يكن من أمر، الأكيد أن ردة الفعل الغربية على الغزو الروسي أوكرانيا أكثر جدّية بكثير مما حدث في العام 2014، حين تركت أوكرانيا لتكون لقمة سائغة، برغم ما كان يربطها من تعهدات حماية مع دول الحلف. الجديد هذه المرّة هو الإحساس بأن الرئيس الروسي، بوتين، قد لا يتورّع عن التمدّد غرباً، إن لم يشعر بأن هناك موانع حقيقية تتجاوز مسألة العقوبات الاقتصادية التي لم يظهر أنها قادرةٌ على ردعه عن تنفيذ مخططه.

ما جرى التوافق عليه كان مهماً أيضاً، فبعد أشهر من الرفض التركي لقبول كل من فنلندا والسويد ضمن الأعضاء، أعلن الرئيس التركي، أردوغان، موافقته، وذلك بعد تعهد الدولتين بالتوقف عن دعم المجموعات الكردية المسلحة المصنفة إرهابية. صحيحٌ أن الأمر لا يزال ينتظر موافقات برلمانية وخطوات أخرى، من أجل أن يتحقق بشكل كامل، إلا أن التوافق أثار تفاؤلاً كبيراً، لتجري الإشارة إلى المسألة كأنها نجاح آخر لقمة مدريد.

على أرض الواقع، تحتاج كل "نجاحات" قمة مدريد مزيدا من الوقت، من أجل إثبات نفسها

على أرض الواقع، تحتاج كل "نجاحات" قمة مدريد مزيدا من الوقت، من أجل إثبات نفسها، سواء على صعيد التوحد والتنسيق العسكري، أو حتى على صعيد انضمام البلدين الإسكندنافيين، فبعد أيام من انتهاء القمة، تناقلت وسائل الإعلام تصريحا لوزير الخارجية التركي، مولود جاووش أوغلو، اعتبر بموجبه أن الموافقة على ضم البلدين لن تكتمل، إلا بعد التأكد من الالتزام الكامل ببنود مذكرة التفاهم التي جرى التوقيع عليها في مدريد، وتنص بشكل واضح على التعاون في مجال مكافحة حزب العمال الكردستاني بكل فروعه وواجهاته، والتضامن الكامل مع تركيا في مواجهتها الإرهاب والتوقف عن تقديم الدعم للمجموعات المعادية، بما يشمل جماعة فتح الله غولن.

من الواضح أن تركيا تخشى أن تكرّر تجربتها المريرة مع اليونان، حين وافقت على ضمها، على رغم ما بين البلدين من تنافس وخلافات، ما ولّد تعقيدات سياسية وأمنية كثيرة لم تستطع تركيا التصرّف حيالها، بسبب أن البلدين يقعان تحت مظلة الناتو. قال جاووش أوغلو إنه قدم دلائل وقرائن كافية على تورّط المجموعات المسلحة وأفراد مطلوبين بعينهم في عمليات إرهابية. وهذا لا يجعل أمام البلدين أي سبب مقنع يمنعهما من تسليم المطلوبين أو الإصرار على التعامل مع منظمات ثبت تبنيها للعنف والإرهاب. وتبدو قضية تسليم هؤلاء المعضلة الأصعب، حيث تحظى الأسماء المطلوبة بتعاطف واسع ضمن الطبقة السياسية التي ترى فيهم مناضلين ضد حكم شمولي يستهدف عرقيتهم. يبدو ذلك واقعًا بشكل خاص في السويد التي تهرّبت رئيسة وزرائها من الإجابة عن سؤال الصحافيين في هذا الشأن، قائلة إنها لم تعتد على الإفصاح عن تفاصيل ما يدور في غرف التفاوض.

لا يدفع ذلك كله إلى التقليل من شأن القمة التي كانت مختلفة عن سابقاتها، من حيث محاولة المجتمعين التحدّث بصوت واحد، لكن الأهم ما ستسفر عنه الأيام المقبلة من نتائج، وخصوصا ما يتعلق برد الفعل الروسي على ما وصفه وزير الخارجية سيرغي لافروف "الستار الحديدي".

مدى الفاتح
مدى الفاتح
كاتب وباحث سوداني في باريس، دبلوماسي سابق