بوركينا فاسو في مفترق طرق
استولى إبراهيم تراوري ومجموعته العسكرية على الحكم في سبتمبر/ أيلول من العام 2022 بعد الانقلاب على العقيد داميبا، الذي كان انقلب في بداية العام نفسه على الرئيس "المنتخب" روش مارك كابوري. منذ حينه، وبوركينا فاسو تصلح مختبراً لتحديات الديمقراطية الأفريقية. القائد الشاب، الذي شارك في ما اعتُبر انقلاباً على السلطة القائمة، كان يحمل مشروعاً أثار حماس الناس. وكان ذلك المشروع متأسّساً على ضلعين: محاربة الجماعات الإرهابية التي ذاقت البلاد بسببها الأمرّيْن، ورفض الهيمنة الغربية وذلك التحكّم الخارجي المستمر منذ الاستقلال في خيرات البلاد.
مثل ما كان الأمر في النيجر المجاورة، ما لبثت المقابلة أن صارت بين مسارين، مسار الديمقراطية الشكلية، التي تحظى برعاية الغرب وتتفق مع أهدافه، والتي من أهمها إطلاق يد الفرنسيين وغيرهم من الأجانب، ومنحهم حقوقاً بلا سقف تخوّلهم استغلال كل موارد البلاد، ومسار إعادة ترتيب المشهد السياسي برمّته عبر كسر طوق اللعبة الديمقراطية وإعادة توزيع السلطة والثروة بما يجعل مصلحة الشعب البوركيني في المقدمة.
هكذا رأى البوركينيون الأمر، وهكذا انحاز أغلبهم للمسار الثاني، الذي يعدهم عبر خطابات ملهبة للحماس بحياة أكثر رغداً بعد التخلص من ميراث التبعية والارتهان. بالنسبة للغربيين الذين ظلوا يراقبون تطوّرات الأوضاع في ذلك البلد المهم، سيظلّ إبراهيم تراوري مجرّد انقلابي، حتى لو كان جادّاً في رئاسة فترة انتقالية قصيرة تنتهي بالتحضير للانتخابات. أما بالنسبة لفرنسا، الدولة التي كانت الأكثر ارتباطاً ببوركينا فاسو منذ استقلالها عنها في 1960، فسوف يكون من الصعب عليها أن تنسى أن تراوري هو القائد، الذي كان من أول قراراته وقف التعاون الأمني وطرد جنود الكوماندوز الفرنسيين ووقف القنوات والإذاعة الفرنسية من البثّ في البلاد.
أمران يمكن أن يلفتا المتابعين للشأن البوركيني في الوقت الحالي: حالة السيولة الأمنية التي لا تخفى، فلا تزال الهجمات الإرهابية مستمرّة، ومحاولات قلب نظام الحكم، التي كان جديدها أخيراً ما حصل من مواجهات وإطلاق نار قرب التلفزيون الرسمي الأسبوع الماضي.
يقلّل الإعلام الرسمي من ذلك، ومن الأنباء التي يجرى تداولها بين حين وآخر عن محاولات التمرّد العسكري. يطالب المتحمّسون للرئيس تراوري بعدم الالتفات إلى ما يصدر عن الإعلام الغربي، الذي يروْن أنه يخوض ضد النظام معركة إعلامية مبنية على إطلاق الشائعات والأكاذيب، سواء في ما يتعلق بالاستقرار السياسي أو بالاتهامات الخاصة بارتكاب الجيش البوركيني انتهاكات ضد السكان المدنيين.
من الصعب على فرنسا أن تنسى أن تراوري هو القائد، الذي كان من أول قراراته وقف التعاون الأمني وطرد جنود الكوماندوز الفرنسيين ووقف القنوات والإذاعة الفرنسية من البثّ في البلاد
ليس من مصلحة أيٍّ من دول المنطقة أن تغرق بوركينا فاسو مجدداً في الفوضى، فمثل ما عصم ارتباط نيجيريا بالنيجر الأخيرة من الحرب، التي كان من المخطط اندلاعها من أجل استعادة حكم محمد بازوم، ، فإن بوركينا فاسو تملك ارتباطاً مشابهاً مع ساحل العاج، الدولة التي لا تزال تتمتع بعلاقة طيبة مع فرنسا وأخواتها.
صحيحٌ أن هناك خلافات بين البلدين عمّقها التوجه الثوري الجديد لبوركينا فاسو، لكن التداخل القبلي، الذي يعد رئيس ساحل العاج الحسن واتارا، المنحدر من قبيلة مشتركة، أكبر مثال له، كان له دور في حماية الوضع من الوصول إلى مرحلة الاشتباك والانهيار. مع ذلك كله، لا يجب التقليل مما يواجه الرئيس تراوري ومشروعه من تربص وعداء، سواء من ناحية الخارج أو حتى في الداخل، حيث يؤثر هذا النظام المشاكس الجديد على مصالح كثيرين ممن لن تتوقف محاولاتهم الراغبة في التخلص من حكمه.
الأمر الثاني الجدير بالانتباه ما حدث أخيراً من تعديل على الوثيقة الانتقالية البوركينية، التي مدّت الفترة الانتقالية خمس سنوات أخرى تنتهي في العام 2029. انقسم الناس وفقاً لهذا بين من حاول إيجاد تبريرات لهذا القرار، على اعتبار أن من المهم إطالة الفترة الانتقالية قبل عقد الانتخابات من أجل تحقيق التغييرين المنشودين، السياسي والاجتماعي، ومن أجل قطع الطريق على القوى المرتبطة بالخارج، وبين فريق آخر لم يخف تشكّكه في نوايا الحاكم الشاب وقلقه من تحول تراوري مجردَّ ديكتاتور. يلفت الفريق الأخير إلى أن المبرّرات المقدّمة من قبيل متابعة النهوض والوقوف على مخطّطات ومشروعات الانتقال كانت قد استُخدمت في دول أفريقية كثيرة، ولم تؤدّ سوى إلى إبقاء حكّام عسكريين على سدّة الحكم عقوداً طويلة بحجة حماية الدولة، بعد أن فرضوا تماهياً بين مصالحهم الخاصة وما اعتبروه مصلحة وطنية أو قومية.
تعيش بوركينا فاسو استقطابات بين النخبة التي ترى نفسها جزءاً من الثقافة العربية الإسلامية، والنخب المقابلة المنحازة لمشروع المركزية الإفريقية
للشكوك والقلق ما يبرّرها، فالتاريخ يخبرنا أن قادةً كثيرين، حتى الذين استلموا السلطة بنيات مخلصة في إحداث تغيير إلى الأفضل، سرعان ما أدمنوا الجلوس على الكرسي، الذي لم يقبلوا تركه لأي سبب. هذه المخاوف المشروعة تجعل من المهم التأكّد من تحصين البلاد بشكل دستوري من السقوط في شرك الاستبداد.
وفقاً لهذا كله، تصبح بوركينا فاسو، ربما لأول مرة في تاريخها الحديث، في مفترق طرق، ما بين استكمال التحوّل الديمقراطي والتحوّل إلى نموذج تقليدي لنظام افريقي ديكتاتوري. هذا التحدّي لا ينفصل عن تحدّي المجموعات المسلحة، التي يؤمن بوركينيون كثيرون أنها مجرّد أداة بيد آخرين من أجل إعاقة نمو البلد وتطوّره.
بجانب ذلك كله، يعيش البلد استقطابات على مستويات مختلفة ما بين النخبة، التي ترى نفسها جزءاً من الثقافة العربية الإسلامية، والنخب المقابلة الأخرى المنحازة لمشروع المركزية الأفريقية، والتي تتعامل مع اللغة العربية ومع كثير من مظاهر التدين الإسلامي بعداء، باعتبار أنها ثقافات وافدة. أضيف لذلك كله تحدٍ جديد، تمثل في تزايد أعداد "المتشيعيين"، حيث جرى استغلال جهل العامة وحبّهم الفطري لآل بيت النبي، عليه الصلاة والسلام، من أجل نشر نسخ متطرّفة من العقيدة الرافضية.