قطار المصالحة الليبي
يستمر قطار المصالحة الليبي المزعوم في تنقله من محطة إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، قاطعاً الاف الكيلومترات، متجولاً بين مدن العالم. ما أن يقف في محطّة حتى ينطلق في رحلة بحث عن مصالحةٍ ضاقت بها مساحة تقارب مليوني كيلو متر مربع. رسم من لا يعنيهم الأمر محطاته، وعملوا على اختيار ركّابه، بل حدّدوا سرعته واتجاهه وموعد انطلاقه... في مارس/ آذار 2015، شهدت مدينة الصخيرات المغربية، باعتبارها المحطة الأهم في مسيرته، توقفا دام أكثر من شهر، حاملاً على متنه أعضاء لجنة الحوار المكونة من مجلس النواب ومجلس الدولة، بالإضافة إلى من اختارهم مبعوث الأمم المتحدة إلى ليبيا في تلك الفترة، برناردينو ليون، وقد أفضت تلك الاجتماعات إلى اختيار مجلس رئاسي بتسعة أعضاء، لم يبق منهم سوى أربعة، فيما آثر الآخرون الاستقالة، كما فعل النائب موسى الكوني، أو الابتعاد والاكتفاء بالمشاهدة من دون حضور ومن دون استقالة، كما فعل كل من عمر الأسود وعلي القطراني. تسلم المجلس الرئاسي زمام أمور لم يستطع التعامل معها، مبرّراً ذلك، وفي أكثر من مناسبة، على لسان رئيسه فائز السراج، بأنه واقع تحت ضغط محلي ودولي قيد حركته المقيدة أصلاً، واضطر، راغباً أو مكرهاً، للارتماء في أحضان حليف خارجي، بعد أن أصبح اللواء خليفة حفتر قاب قوسين أو أدنى من وسط طرابلس، تلبية لندائها المطالب بالقضاء على المليشيات التي عاثت في العاصمة فساداً (حسب تصريحات حفتر في خطابه الذي اشتهر بـ"لبيك طرابلس")، بعد أن كان الجميع يعد العدّة لاستقبال قطار المصالحة في محطة غدامس المحلية. ذلك الهجوم المباغت الذي جعل رئيس المجلس الرئاسي، ومن تبقوا من الأعضاء في طرابلس، يتفقون (للمرة الأولى) على دحر العدوان وبأي ثمن، حتى وإن كان الثمن توقيع اتفاقات ومعاهدات ليست من اختصاصه، ولم يجزه اتفاق الصخيرات، له باعتباره مجلساً موقتاً.
تدفق آلاف المرتزقة إلى ليبيا، بعضهم إلى الغرب الليبي، بأجور معروفة، تناولتها معظم وسائل الإعلام، وصرح بها بعض هؤلاء المرتزقة أنفسهم في فيديوهات انتشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وتدفق آخرون إلى الشرق، ولا يعرف أعدادهم ولا أجورهم إلا الراسخون في معرفة حفتر ومساعديه المقرّبين جداً. صرفت الملايين من خزينة المصرف المركزي، بفرعيه الشرقي والغربي، لا من أجل إعمار أو تحسينٍ لخدمات أو تنميةٍ لقدرات، بل من أجل زيادة محنة المواطن الليبي ومعاناته، ليتضاعف عدد النازحين والقتلى والمشرّدين. هُدّمت البيوت واستبيحت الأملاك والأعراض، وتفنن أفراد المليشيات المحلية والمستوردة في العبث بكل ما يقع تحت أيديهم، من دون حسيب أو رقيب، فالأنظار شاخصة ومشغولة بأخبار الجبهات، والميزانيات تُصرف لاستيراد الأسلحة من كل بقاع الأرض، وبإشراف مباشر أو غير مباشر من الدول التي طالما دعت إلى وقف تزويد الأطراف المتصارعة في ليبيا بالسلاح، فلا صوت يعلو فوق صوت السلاح، ولا وقت ليضيعه المسؤولون لسماع أصوات الأبرياء التي لم تعد أسقف بيوتهم قادرةً على حمايتهم، ولا لصراخ أطفالٍ تيتموا، ومُنعوا من الذهاب إلى مدارسهم، بل وحُرموا من الحصول على حليبهم أو تطعيماتهم، ولا لآهات مرضى حُرموا من العلاج، ولم يعد لهم من أمل في الحصول على أدويتهم، أو على سرير داخل مشفى، حيث حُولت معظمها (على قلتها) إلى مراكز لإقامة المرتزقة وتجميع الأسلحة وقواعد لانطلاق الطيران المسيّر، بدلا من أن يكون طيران الإسعاف السريع.
هُدّمت البيوت واستبيحت الأملاك والأعراض، وتفنن أفراد المليشيات المحلية والمستوردة في العبث بكل ما يقع تحت أيديهم، من دون حسيب أو رقيب
وفي ظل هذه الأحداث، وحتى تكتمل الصورة تماماً، كان لابد من إعلامٍ يؤدّي المهمة المطلوبة منه. وبالفعل كان هذا، فهذه إذاعة تُسبّح بحمد حفتر وتُقدّس له، وتقدّمه في صورة المنقذ الذي قطع أكثر من ألف كيلومتر من أجل القضاء على الفساد والمفسدين، لينعم سكان العاصمة بالأمن والأمان، كذلك الذي عاشته شوارع بنغازي، خصوصا في شارع الزيت (وجدت فيه أكثر من عشرين جثة)، أو من خلال حملات المداهمة التي تقوم بها الأجهزة الأمنية ضد من يعارض الحرب، أو ينتقد سياسة "المشير" أو أبنائه، وذاك اتخذ من إذاعته التي لا يعرف أحد مصادر تمويلها وسيلةً للارتزاق، وهلل للدمار والخراب وسوّق، وبكل مهنية، لخطاب الكراهية الذي أتقنه طوال فترة الحرب، واستخدم في ذلك من له الباع الطويل في هذا المضمار.
ولكي تستطيع الدول الراعية للحرب في ليبيا إكمال مهمتها بيسر ونجاح، كان لزاماً عليها التفكير في إنشاء قواعد عسكرية، فأقيمت قاعدة الخادم الجوية جنوب مدينة المرج على مساحة تبلغ 15 كيلومترا مربعا، وفيها مطار الخروبة الذي تم تطويره في 2017. وبحسب تقارير خبراء الأمم المتحدة، تتمتع الإمارات بوجود قوي داخل هذه القاعدة، بل ويتولى ضباط إماراتيون إدارتها، حيث جُهزت لتستقبل طائرات الشحن الإماراتية بشكل دوري (سراً وعلانية)، محملة بما من شأنه إطالة أمد الحرب بين الشرق والغرب. ولهذا كان من الضروري للطرف الآخر من قاعدة في الغرب الليبي، وكانت قاعدة عقبة بن نافع (الوطية) الواقعة على مسافة 170 كيلومترا غرب العاصمة طرابلس، والقريبة من الحدود التونسية، الهدف الذي يبحثون عنه، وكان لهم ما أرادوا، غير أن القاعدة الآن تديرها قوات تركية، بعد السيطرة عليها وانسحاب القوات التي كانت موالية لحفتر منها، الأمر الذي أكدته صحيفة يني شفق التركية في يونيو/ حزيران الماضي 2020.
لكي تستطيع الدول الراعية للحرب في ليبيا إكمال مهمتها بيسر ونجاح، كان لزاماً عليها التفكير في إنشاء قواعد عسكرية
وقد جرى هذا كله تحت أنظار العالم الذي لا تخفى على أقماره الصناعية شاردة ولا واردة، والذي اقتصر دوره كالعادة على التعبير عن القلق والتنديد والاستنكار والدعوة إلى التهدئة وضبط النفس. بعد سنة من الدمار والقتل والتشريد، اضطر حفتر إلى الإنسحاب، التكتيكي حسب تصريح ناطقه الرسمي، إلى أكثر من 300 كيلومتر، ليستقر الحال بمرتزقته، وبقوات "فاغنر" الروسية التي أمنت هذا الانسحاب إلى مدينة سرت، بعد أن كلف الخزينة الليبية، جرّاء هذه الحرب، أكثر من 30 مليار دينار ليبي، وفق تقارير رسمية، بالإضافة إلى آلاف من القتلى والجرحى من الشرق والغرب، ونزوح أكثر من 82 ألف مواطن من مناطق الإشتباكات، بعد أن سُويت منازلهم بالأرض، وأصبحت منطقة جنوب طرابلس، والتي كانت مسرحاً لهذه العمليات، تحتاج إلى إعادة إعمار كامل، حسب تصريحات أكثر من خبير معماري.
وتأتي الأوامر، في يونيو/ حزيران 2020، للقطار بالإنطلاق إلى روسيا، حاملا معه قليلين فقط في هذه المرة، حيث اقتصر ركابه على فائز السراج ومرافقيه المقرّبين وحفتر وابنه ورئيس مجلس النواب في طبرق، عقيلة صالح، وبعض أفراد قبيلته، للتوقيع على اتفاقٍ يوقف نزيف الحرب، حسب ما أعلنته وكالة الأنباء الروسية. ولكن يبدو أن للأوامر العليا التي صدرت لحفتر رأيا آخر، فغادر "المشير" في ظلام الليل، من دون أن يوقع على الإتفاق المزعوم، الأمر الذي يبدو أنه دفع روسيا إلى التفكير فيما إذا كان حفتر هو الشخص المناسب الذي يجب أن يعوّل عليه راعيا لمصالحها في ليبيا.
منطقة جنوب طرابلس، وكانت مسرحاً للعمليات، تحتاج إلى إعادة إعمار كامل، حسب تصريحات أكثر من خبير معماري
واصل القطار رحلاته المكوكية إلى برلين وباليرمو والقاهرة، على الرغم من أن الليبيين لم يعودوا يكترثون ولا يتابعون خط سيره أو محطّات توقّفه، فهم غارقون في أتون حياة ضنك، وعيش بائس، دفع شبابا كثيرين إلى المخاطرة بحياتهم، عبر قوارب الموت التي صوّرها لهم اليأس أنها الجسر الوحيد لتحقيق أهدافهم التي لم تتعدّ وطنا يشعرون فيه بالأمن والأمان. تجاهل الليبيون القطار، لأنهم يدركون تماماً أن كثيرا من هذه المحطات الدولية كانت وجهة لقطارات قادمة من سورية والعراق وأفغانستان والسودان، ويعرفون أيضا أن القاسم المشترك بينها جميعا (بما فيها القطار الليبي الحديث) هو استمرار رحلة تلك القطارات، بحثا عن المحطة النهائية التي يبدو أنها حلم بعيد المنال.
إذاعة تُسبّح بحمد حفتر وتُقدّس له، وتقدّمه في صورة المنقذ الذي قطع أكثر من ألف كيلومتر من أجل القضاء على الفساد والمفسدين
ومع إصرار الليبيين على عدم الاهتمام بتلك الرحلات المكوكية، لأنها تعكس، في نظرهم، المثل الشعبي "اللي يجرّب المجرّب عقله مخرّب"، تصر وسائل الإعلام على أن تنقل لهم خبر وصول هذا القطار إلى مدينة بوزنيقة المغربية، حاملاً معه الوجوه نفسها في جولة أخرى من جولات النقاش بشأن المناصب السيادية وطريقة توزيعها بما يرضي المفاوضين، بينما يغرق الليبيون في أوحال الدولة المدنية المزعومة التي يلفها الظلام، وتسيطر عليها المليشيات، وتتقاذفها أمواج الحرب، وتعصف بها رياح الفساد التي جعلت منها دولةً على حافة الإفلاس (وفق التقارير الاقتصادية)، على الرغم من كل مواردها وخيراتها.
هل يستطيع ما يعرف بالمجتمع الدولي، والذي جعل من اليمن السعيد تعيسا، ومن السودان اثنين، ومن يوغسلافيا ثلاثا، ومن العراق دولة فاشلة، ومن لبنان دولة تُحكم بالمحاصصة الطائفية، أن يكون له رأي مختلف في المسألة الليبية؟ أم أن الأمر لا يعدو كونه إعادة للسيناريو نفسه مع اختلاف المخرجين والممثلين.