قصة تراجع الجنيه المصري
خفّضت الحكومة المصرية الشهر الماضي (مارس/ آذار) قيمة الجنيه المصري أمام الدولار، بعد هروب حوالي 15 مليار دولار من أموال الدائنين الأجانب بسبب أزمة الحرب في أوكرانيا، وذلك وفقا لتقديرات منظمة غولدمان ساكس المالية الأميركية حجم الأموال الهاربة. وهو ما اضطرّ الحكومة إلى تخفيض قيمة الجنيه بحوالي 15%، رغم تبعاته على المواطنين المصريين، وارتباط تراجع قيمة الجنيه بتراجع قدرتهم الشرائية ومستوى معيشتهم، وربما بنزول مزيد منهم تحت خط الفقر. فقد أدّى تخفيض قيمة الجنيه بحوالي 50% أمام الدولار في عام 2016 إلى نزول خمسة ملايين مصري تحت خط الفقر خلال العامين، أو الثلاثة، التاليين للقرار، وفقا لتقديرات مختلفة. وذلك إضافة لحوالي 27 مليون مصري كانوا يعيشون بالفعل تحت خط الفقر، بسبب السياسات الاقتصادية للحكومات السابقة.
وتعود أسباب التخفيض أخيرا إلى فشل سياسات الإصلاح الاقتصادي التي اتّبعتها الحكومة المصرية منذ نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، بعد حصولها على قرض من صندوق النقد الدولي قيمته 12 مليار دولار، تسلمته على مراحل. وبناء على تعليمات الصندوق، انخرطت مصر في أهم خطة للإصلاح الاقتصادي في عهد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، تضمنّت تخفيض سعر الجنيه لتحقيق استقرار سعر الصرف وجذب الاستثمارات الأجنبية، كما تضمّنت التوسع للاقتراضَين، الداخلي والخارجي، لزيادة احتياطي النقد الأجنبي من ناحية، وللإنفاق على مشاريع تنموية ضخمة هادفة إلى تحقيق معدّلات نمو عالية، ومن ثم تحقيق الانتعاش الاقتصادي. وبناء عليه، وصل الديْن الخارجي إلى 137 مليار دولار في عام 2021، مقارنة بديْن خارجي قدره في 48 مليار في 2016، حين قدمت مصر على قرض الصندوق، كما توسّعت مصر أيضا في الاقتراض الداخلي، ليصل إجمالي الديْن الوطني إلى حوالي 370 مليار دولار في عام 2021، وفقا لتقديرات الأكاديمي الأميركي المتخصص في الشأن المصري روبرت سبرنغبورغ، في مقال له نشره مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط (مركز أبحاث في واشنطن) في يناير/ كانون الثاني الماضي. وتوقع في المقال أن يصل اجمالي الدين العام في مصر إلى 557 مليار دولار في 2026، وذلك قبل أزمة الديون التي ضربت مصر في مارس/ آذار 2022 (بعد نشر المقال بشهرين)
أما أسباب فشل سياسات الحكومة المصرية، فيشرحها الأستاذ المساعد في الجامعة الأميركية، عمرو عدلي، في دراسة له منشورة في 2022 عن سياسات الصندوق والإصلاح الوهمي، حذرت منذ عامين من أن سياسات الصندوق لا تركز على أي إصلاح حقيقي للاقتصاد المصري، خصوصا في ظل التطبيق المعيب للحكومة المصرية لتلك السياسات، فلكي يتقلص العجز المزمن لميزان المدفوعات المصري، يجب أن تعمل الحكومة على التصدير، وهو ما يتطلب بناء البنية التحتية اللازمة لذلك، من تعليم وبحث علمي، وتشريعات ومؤسسات وشفافية، وقاعدة صناعية واسعة لا تقتصر على المصانع الكبرى، وإنما تمتد إلى المصانع الصغيرة والمتوسطة القادرة على زيادة المنتج المحلي، وكذلك فتح أسواق خارجية للمنتج المصري.
حكام مصر العسكريين أهدروا رأسي مال مصر، البشري والمادي، على مدى العقود السبعة السابقة
أما ما حدث فكان مغايرا للمطلوب إلى حد كبير. وفقا لعدلي وسبرنغبورغ ويزيد صايغ في أحدث دراساتهم عن الاقتصاد العسكري المصري، توسّعت الحكومة في الاقتراض لتنفق على مشاريع ضخمة، مثل بناء العاصمة الإدارية الجديدة، وتفريعة قناة السويس، وبناء شبكة من الطرق والكباري (الجسور)، وكذلك بناء المساكن الموجّهة في الأساس إلى الأثرياء، وشراء الأسلحة، وربما الاستثمار في مشاريع صناعية وزراعية ضخمة، واستخدمت الاستثمار في البنية التحتية والإسكان قاطرة للاقتصاد المصري، وهو ما أدّى إلى إهدار مليارات من الديون في مدن صحراوية وطرقٍ ومبانٍ قد لا تعود بعائد سريع على الاقتصاد، وربما تخسر كما حدث في تفريعة قناة السويس. كما أنها لن تساهم في زيادة الصادرات، لأنها قطاعات لا يمكن تصديرها، في حين ظل نمو القطاعين، الزراعي والصناعي، عند حدوده الدنيا، ولم يجتذبا أي استثماراتٍ أجنبية تُذكر. بل ارتبطت زيادة الإنتاج الصناعي المصري بزيادة عجز الموازنة وزيادة الاستيراد، كما يوضح عمرو عدلي في دراسته، بسبب اعتماد القطاع الصناعي المصري على الاستيراد في مختلف مراحل الإنتاج، استيراد المواد الخام والمتوسطة والماكينات، وهو ما يعني أن أي زيادةٍ في الإنتاج الصناعي أو التصدير قد ترتبط بزيادة مشابهة، وربما أكبر، في الاستيراد، بسبب ارتفاع سعر العملات الأجنبية، وأهم من ذلك غياب أي استراتيجية مصرية جادّة للتصنيع أو النمو الاقتصادي المستدام، كما يذكر يزيد صايغ في دراسته. وهو الذي يشتكي من أن المؤسسة العسكرية، التي استخدمها الرئيس السيسي رأس حربة في برامجه الاقتصادية، وتعامل معها كأنها ذراع اقتصادية وسياسية لنظامه، كرّرت الأخطاء الاقتصادية نفسها التي يعاني منها الاقتصاد المصري، مثل التركيز على المشاريع الربحية، وخصوصا في القطاع العقاري، وضعف الإنتاجية وافتقار منتجاتها إلى أي قيمةٍ مضافة تذكر أو قدرة على التصدير، وكذلك لاعتمادها على المعاملة التفضيلية واحتكار العقود الحكومية، ناهيك عن العمل، أحيانا، مجرد وسيط بين الجهات الحكومية والقطاع الخاص، واعتمادها على مجموعات مفضلة من الشركات الخاصة لتنفيذ بعض مشاريعها، ما يضعف المنافسة، ويقتل الابداع، ويزيد من تكاليف الإنتاج.
أهدرت عشرات المليارات من الديون الإضافية في مشاريع لا طائل اقتصادياً حقيقياً منها
وهكذا أهدرت عشرات المليارات من الديون الإضافية في مشاريع لا طائل اقتصادياً حقيقياً منها، ومن دون تطوير قدرات الاقتصاد المصري الحقيقية، وزيادة قدرته على الإنتاج والتصدير. ويقول عمرو عدلي إن الأمر متكرّر، حيث حصلت مصر على قرض من صندوق النقد الدولي كل عقد تقريبا منذ أواخر السبعينيات. وفي كل عقد تكرّرت الدورة نفسها، والتي لم تؤدّ إلا إلى إثراء "محاسيب" أو رأسمالية النظام، وهي القوى المقرّبة من الرئيس والمنتفعة اقتصاديا من نظامه والداعمة له سياسيا، كما يذكر روبرت سبرنغبورغ في كتابه "مصر" الصادر في 2018. وهذا يعني أن قصة تراجع الجنيه المصري قديمة بعض الشيء، وقد لا ترتبط فقط بالسنوات الست الأخيرة، أو بثورة 25 يناير 2011 كما يذكر السيسي في مناسبات عديدة، ولا إلى عهد حسني مبارك نفسه، وأنها أقدم من ذلك. حيث يفيد روبرت سبرنغبورغ، في كتابه، بأن سعر الجنيه المصري في عام 1960 كان ثلاثة دولارات، وتراجع في عام 1990 إلى 30 سنتا أميركيا، ثم وصل في 2016 إلى ستة سنتات فقط. ويقول إن نظام 1952 ورث اقتصادا مصريا ليس مثاليا، ولكنه كان نشطا، يمتلك قطاعا صناعيا ينمو، وقطاعا ماليا تضمّن فروعا لبنوك غربية ومصرية ناجحة، وبنية تحتية كانت من الأفضل بين دول العالم الثالث، ورأس مال بشريا متقدّما بمعايير تلك الأوقات. ولكن حكام مصر العسكريين أهدروا رأسي مال مصر، البشري والمادي، على مدى العقود السبعة السابقة، لسبب رئيسي، هو بناؤهم نظاما استبداديا مغلقا يعمل على ضمان التحكم في الشعب، وعدم وصوله إلى الحكم حتى لا يهدّد النظام، ولو أدى ذلك إلى تراجع مصر بشكل مستمر منذ 1952.
يرى سبرنغبورغ أن نظام 1952 هو سبب مشكلات مصر، فهو مصمم ليكون نظاما أمنيا بالأساس، مشغولا بمنع الترقّي الطبيعي للمصريين إلى قمة الهرم الاقتصادي والسياسي في بلدهم، وذلك من خلال سلسلة من المؤسسات الأمنية (الجيش والاستخبارات والشرطة)، المشغولة بضمان عدم الصعود الاقتصادي والسياسي لأي قوى أو أفراد من خارجها، أو لا تحظى برضاها خوفا من تهديد النظام، وكانت النتيجة غياب الحرية والمؤسسات والمنافسة الاقتصادية والإبداع، وتراجع البلاد باستمرار، وإن ببطء، على المستويات كافة، ولعل تراجع قيمة الجنيه أحد المؤشّرات على ذلك. وهكذا تبدو قصة تراجع الجنيه المصري أقدم بكثير مما يتصوّر بعضهم.