في تحدّيات الحكومة البريطانية الجديدة
فاز حزب العمّال البريطاني في الانتخابات البرلمانية التي انتظمت أخيراً، وعاد إلى الحكم بعد حوالى عقدين في مقاعد المعارضة. فاز الحزب بأغلبية ساحقة، حيث حصد 412 مقعداً من مقاعد مجلس العموم (البرلمان) البريطاني الـ 650، وهو ما يعطيه أغلبية مريحة للغاية لتمرير ما يريده من قوانين، خصوصاً أن حزب الديمقراطيين الليبراليين فاز بـ 72 مقعداً. وهذا يعني أن لليبراليين واليساريين كتلة عظيمة داخل مجلس العموم الجديد، ويصعب على اليمين البريطاني (المحافظون والإصلاحيون) منافستهم داخل البرلمان.
وتعرّض اليمين البريطاني لهزيمة ساحقة. خسر حزب المحافظين، الحاكم سابقاً، 251 مقعداً دفعة واحدة، لتنحسر مقاعدهم إلى 121 مقعداً فقط، كذلك صعد إلى عضوية البرلمان لأول مرّة حزب الإصلاح لناجيل فراج، وهو يعبّر عن حركات اليمين المتشدّد والقومية الإنكليزية ببريطانيا، حيث نجح في الحصول على خمسة مقاعد، أحدها لفراج نفسه، ونافس بقوة على مائة مقعد أخرى لم يتمكّن من حصد الأغلبية فيها. وبهذا، انقسم اليمين البريطاني وضعُفت شوكته. وفاز حزب الخضر بأربعة مقاعد، وهو العدد الأكبر في تاريخه، وصعد ستة مستقلين لعضوية البرلمان، من بينهم خمسة على الأقل من داعمي غزّة، ونافس ستة آخرون من المرشّحين الداعمين غزّة على المرتبة الأولى في دوائرهم في سابقة تاريخية كذلك.
تعكس النتائج، للوهلة الأولى، فوزاً ساحقاً لحزب العمّال، تمكّنه من الحكم بسهولة، وتنذر بعصر ليبرالي بريطاني، وتغييرات كبيرة قادمة، ولكن الأوضاع في الحقيقة تبدو أكثر تعقيداً من ذلك بكثير للأسباب الآتية: أولاً: يقول بعضهم إن الحزب لم يفز في الانتخابات، ولكن المحافظين خسروها. بمعنى آخر، كان التصويت نوعاً من العقاب لحزب المحافظين وسجلهم السيّئ في الحكم بقدر ما هو دعم لـ "العمّال" وتأييدٌ لصعودهم.
عزوف نسبة كبيرة من الناخبين البريطانيين عن التصويت، لعدم ثقتهم بالخيارات السياسية المطروحة
لم يذهب إلى صناديق الاقتراع سوى 60% من الناخبين البريطانيين، مقارنة بنسبة 67% من الناخبين شاركوا في انتخابات 2019 وحوالى 69% في انتخابات 2017، وهذا يعني عزوف نسبة كبيرة من الناخبين البريطانيين عن التصويت، لعدم ثقتهم بالخيارات السياسية المطروحة. ويبدو أن حزب المحافظين كان الأكثر تأثّراً بعزوف الناخبين. ... في انتخابات 2019 التي خسرها حزب العمّال، بقيادة جيرمي كوربين، فاز الحزب بحوالى عشرة ملايين صوت، ومع ذلك خسر الانتخابات، وفي انتخابات الأسبوع الماضي حصل الحزب على 9.5 ملايين صوت، وفاز بأغلبية 63% من مقاعد البرلمان. ما يعني أن فوز "العمّال" كان نتيجة عزوف الناخبين ولمنافسة حزب الإصلاح بقيادة ناجيل فراج حزب المحافظين، وقد حصل "الإصلاح" على 14% من أصوات الناخبين البريطانيين (حوالى 3.5 ملايين صوت)، ولم يحصد سوى خمسة مقاعد في البرلمان. أما المحافظون، فحصلوا على 24% من أصوات الناخبين، وحصدوا 121 مقعداً. وهذا يعني أن نصيب المحافظين والإصلاحيين من إجمالي أصوات الناخبين مجتمعين يفوق عدد من صوّتوا لحزب العمّال، وأنه لولا انقسام اليمين البريطاني لربما استمرّ المحافظون في الحكم، وأن دور حزب الإصلاح كان مفسداً ومفرّقاً لأصوات اليمين البريطاني، وضاعف من خسارة المحافظين، وهي عوامل ساعدت العمال بشدة.
في الوقت نفسه، كان بقاء المحافظين في الحكم شبه مستحيل، لسلسلة من الكوارث السياسية التي شابت حكمهم في العقد الأخير، بداية من الخروج من الاتحاد الأوروبي، مروراً بالفضائح الكثيرة التي شابت حكومة رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، وولاية رئيسة الوزراء السابقة، ليز تراس، القصيرة للغاية (سبعة أسابيع)، حيث اضطرت إلى الاستقالة بعد خسائر اقتصادية فادحة مُنيت بها بريطانيا بسبب سياساتها. أما حكومة رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، فنالها حظها من الفضائح والانقسامات والتشدّد والعجز على الإنجاز، وإن نجح في إعادة مؤشّرات الاقتصاد البريطاني إلى النمو والتضخّم إلى التراجع.
لن يجد حزب العمّال طريقاً ممهداً في الحكم، والأغلبية الكبيرة التي فاز بها ستمثل تحدّياً له، فهو مطالبٌ بالإنجاز في بيئة شديدة الصعوبة
ثانياً: صعود حزب العمّال إلى الحكم لا يُعَدّ تفويضاً واضحاً لأجندتهم، بقدر ما يُعَدّ رفضاً لوجود المحافظين في الحكم. حيث تركّزت أجندة "العمّال" بالأساس على فكرة إعادة ثقة الناخبين في العملية السياسية، واتسمت إدارة رئيس الحزب ورئيس الوزراء البريطاني الجديد، كير ستارمر، بقدر كبير من التحفظ والتوجه نحو وسط السياسة البريطانية بدلاً من اليسار. بنى ستارمر سمعته على رفضه إرث المحافظين، الذي اتسم بالفضائح السياسية، وإعلاء المصالح الحزبية على المصلحة العامة. ورفض ستارمر سياسات رئيس حزب العمّال السابق، جيرمي كوربين، الذي اتسم بالتوجه اليساري القوي الراغب في تأميم شركات كثيرة تدير مرافق رئيسية، وكذلك خفض تمويل الجيش البريطاني وتبنّي سياسة خارجية غير تدخلية ونقد السياسات الإسرائيلية.
تخلّص ستارمر من أنصار كوربين في حزب العمّال، وبتوجيه الحزب إيديولوجياً نحو وسط السياسة البريطانية، وركّز على قضايا، مثل إصلاح المرافق العامة، وفي مقدمتها منظومة التأمين الصحي البريطانية، والتوسّع في بناء المنازل الجديدة للحد من أزمة السكن الخانقة في بريطانيا، وكذلك حل مشكلة الهجرة بشكل أكثر احتراماً للقوانين والقيم البريطانية، وتبنّي أجندة لا تخيف رجال الأعمال، الذين يخشون دائماً صعود اليساريين إلى الحكم خوفاً من زيادة الضرائب على الأثرياء. هذا يعني أن صعود "العمّال" إلى الحكم ليس بسبب تبنّي البريطانيين أجندة يسارية قوية بقدر رفضهم توجّه المحافظين المتشدّد نحو اليمين ومصالحهم الحزبية، ورغبة في عودة بريطانيا نحو قدر من الاستقرار والهدوء السياسي.
يمثل فوز "العمّال" الساحق، في الوقت نفسه، نوعاً من التحدّي لهم. فمن ناحيةٍ، حصلوا على تفويض كبير للحكم، وسينتظر بعض أنصارهم والناخبون أن يستخدم "العمّال" أغلبيتهم الكبيرة في تمرير سياسات حاسمة تجد حلّاً لمشكلات بريطانيا، وتضمن لهم ترك بصمة سياسية والبقاء في الحكم فترة، وفي الوقت نفسه، قد يشعر قادة الحزب أنهم لم يحصلوا على تأييد جماهيري كافٍ لتمرير سياسات مختلفة بشكل كبير عما هو سائد حالياً، لأنهم تبنّوا في هذه الانتخابات توجّهاً قوياً نحو الوسط، كما جاء أعلاه.
لا توجد حلول سريعة لخفض أعداد المهاجرين وطالبي اللجوء، خصوصاً أن الاقتصاد البريطاني يعاني أصلاً من قلة الأيدي العاملة
ثالثاً: لن يكون من السهل على حزب العمال أو غيرهم إيجاد حلول سريعة لمشاكل بريطانيا. صحيح أن الاقتصاد البريطاني عرف بعض التحسّن في نهاية عهد سوناك بعودة الاقتصاد للنمو الضعيف، وبتراجع التضخم مما يشجع على خفض معدلات الفائدة، إلا أن الاقتصاد البريطاني يعاني من مشاكل هيكلية، كنقص الأيدي العاملة، تعيقه عن النمو، ويعاني أيضاً من غياب استراتيجية قوية تشجع النمو الاقتصادي وتجذب الاستثمارات. وتعاني بريطانيا أيضاً من أزمة في ما يتعلق بالهجرة، حيث يوجد شعور عام بزيادة أعداد المهاجرين على الحدود المقبولة. وفي الوقت نفسه، لا توجد حلول سريعة لخفض أعداد المهاجرين وطالبي اللجوء، خصوصاً أن الاقتصاد البريطاني يعاني أصلاً من قلة الأيدي العاملة. وعلى المنوال نفسه، لا توجد حلول سريعة لعلاج مشاكل المرافق البريطانية التي تعاني، كمنظومة التأمين الصحي. وتعاني بريطانيا أيضاً من ارتفاع الدين الحكومي، ما يحدّ من قدرة أي حكومة على الإنفاق، وفي حالة زيادة الضرائب بشكل كبير، قد تشهد بريطانيا انتقادات قوية من الأثرياء ومخاوف من هروب رؤوس الأموال.
وهذا يعني أن حزب العمّال لن يجد طريقاً ممهداً في الحكم، وأن الأغلبية الكبيرة التي فاز بها ستمثل تحدّياً له، فهو مطالبٌ بالإنجاز في بيئة شديدة الصعوبة، وفي غياب لتأييد جماهيري كبير للتغيير الجذري، وكذلك في غياب حلول سريعة لأيٍّ من المشكلات المزمنة التي تعاني منها بريطانيا، وفي ظل جمهور بريطاني متقلّب بشدة تخلى عن حكومة المحافظين رغم دعمهم القوي وفوزهم الكبير من انتخابات 2019. ... وهذا يعني أيضاً أن على حزب العمّال بذل جهدٍ كثير لترك بصمة في الحكم وعدم إضاعة الفرصة الراهنة.