قسمتي ونصيبي
بأسىً تواسي نفسها، فقط لا أريد أن أرى هذا السؤال في عيون من حولي: متى تموت هذه المرأة؟ وكأنني أثقل عليهم بمكاني الصغير الذي أتخذه في بيوتهم. وها هو العمر يمضي بها، وهي تحلم، ولكنها لم تستطع أن تدقَّ الماء في الكوز، وتقبض على الفراغ، في كلِّ مرَّةٍ تعتقد أنها شيء سيتغيَّر، وقد حاولت مراراً أن تقف، وتصرخ بأعلى صوتها، ولكنها تعرف أن أحداً لن يسمعها، وإن سمعها أحدٌ، فالسخرية ستلاحقها. ولذلك هي لا تتمنَّى سوى أمنية صغيرة، لا تريد أن تلمح هذا السؤال في عيونهم.
أُمًّا قد أصبحت، وقد عانت، وتعبت، والرجل الذي فرضه عليها الجميع؛ لأنه الشريك المناسب، لم يكن شريكاً، ولو لحظة، فهو يريد أن يحصل على راحته، في كلِّ ركن من البيت، ويجب أن تهيئ هذه الراحة، ومن يهيئ الراحة لإنسان آخر، على حساب راحته وصحته وطاقته، لا يمكن أن يطلق عليه اسم الشريك. حياتها تشبه حياة موظَّف كادح، كالذي صوَّرته السينما، فهو يقوم بكلِّ العمل في الشركة، ولا يشعر به أحد، فيما يتعالى صراخ الموظفين المهملين المتقاعسين، وهم يطالبون بحقوقهم، والغريب أنهم يتلقون العلاوات والترقيات. تنهَّدت، وهمست لنفسها: مخطئ من يعتقد أن الحياة فيها بعض العدالة.
العدالة، أيُّ عدالةٍ يتحدّثون عنها، وهي كانت ترى نفسها عبئاً ثقيلاً في بيت مليء بالأولاد الذكور، وعليها أن تتزوَّج؛ لأن والدها لا يريد أن ينفق قرشاً على تعليمها، ويريد أن يوفر المال؛ من أجل تعليم إخوتها، ولذلك تزوَّجت بمجرَّد أن أنهت التوجيهي، وانتقلت من بيت إلى بيت، ولم يتغيَّر سوى المسمّى.
كان عليها أن تنجب أولاداً كثيرين، وحاولت مع زوجها كثيراً أن يكتفيا بأربعة أبناء، ولكنه كان مُصِراً على أن تتحوَّل إلى "أرنبة". هكذا أصبح لديها عشرة أبناء ذكور، ولم تنجب بنتاً واحدة. وقد قرأت يوماً أن إنجاب الذكور دليل أنانية الرجل في الفراش. أصبح اسمها أم البنين، وتهالكت صحَّتُها، يوماً بعد يوم، وهي تربِّيهم، فيما كان والد زوجها كلَّما جاء لزيارة ابنه، يقول لها، في لهجةٍ لا تحمل أيَّ مشاعر "اهتمِّي بتغذية الرجال"، وهذا يعني أن عليها قضاء وقتها في المطبخ لإعداد الطعام.
أيُّ أنانية جُبِل عليها أولادها. لا تعرف، فربما لم يستقوا شيئاً من الرحمة والرأفة من الأب، وسلالته الذكورية. وهكذا وجدت نفسها، بعد وفاة زوجها، تنتقل من بيتٍ إلى بيت، من بيوت أولادها، وكأنها متاعٌ يتناقلونه، وهي لا تملك حقَّ الاعتراض، بل إن أحداً من أشقَّائها لم يحاول أن يطلب استضافتها؛ من باب أن بيوت أولادها العشرة أوْلى بها، ولم تشعر في بيت أحدهم بأنها تعيش معزَّزةً مكرَّمة، كما يقول كلُّ واحد عنها، أمام الناس، بل تشعر بأنهم يؤدُّون مهمَّة؛ لكي لا ينهش الناس وجوههم، فتسمع خُطا ابنها، وهو يعود من عمله، في المساء، ويقف على باب غرفتها، ويسترِق السمع؛ فيسمع أزيز صدرها، ويتأكَّد أنها لا تزال على قيد الحياة؛ فيستمرّ في سيره متوجِّهًا إلى غرفته، حيث تنتظره زوجته.
ضحَّت كثيراً، وربما لم تكن تضحية، بقدر ما هو عجز وتسليم للواقع الذي لا يمكن أن تغيِّره بنفسها. سرحت بينها وبين نفسها مرَّات كثيرة، وهي تتساءل: لماذا لم تثُر على هذه الحياة؟ وتذكَّرت أمَّها التي لم تفرح لقدومها إلى الحياة، ولم تستثمر ابنة وحيدة، بين ذكور؛ لتكون لها أختاً وصديقة، بل وضعت يدها في يد الأب؛ لإزاحتها عن البيت، ولكي تترك مكانها للرجال.
مكانها، أيُّ مكان يتحدَّثون عنه، وهي تنزوي في كلِّ بيتٍ من البيوت العشرة التي تتنقل بينها، في ركنٍ صغير مهمل، لا ترجو فيه شيئاً، سوى أن لا ترى ذلك السؤال في عيونهم، فهي لم تفعل لهم شيئاً يؤذيهم، بل على العكس، لقد فعلوا بها كلَّ شيء، وعليها اليوم أن تردِّد في انتظار الموت: "قسمتي ونصيبي".