قائد العالم ليس قائد السلام
تدخل الحرب الروسية على أوكرانيا شهرها الثاني، كلّ شيء يقول إنّها ستطول، وإنّ "دخول الحمام ليس كالخروج منه". يسجل تعثر عسكري وأخلاقي على روسيا، مقابل نجاح سياسي لأميركا، لكنّ كليهما، التعثر والنجاح، يقاسان هنا من منظور محلي أو قومي، أما من المنظور العالمي العام فلا يسجّل سوى الفشل.
في نهاية كلمته التي ألقاها عبر الإنترنت أمام الكونغرس الأميركي في 16 مارس/ آذار الحالي، قال الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، مخاطباً الرئيس جو بايدن: "أن تكون قائد العالم هو أن تكون قائد السلام". ماذا قصد من هذا القول؟ الواقع أنّ زيلينسكي أظهر أداء سياسياً معقولاً بعد بدء الغزو، وانقشاع وهم الحماية الغربية لبلاده (وإن شابت أداءه عيوب نبعت من غياب فهمه القضية الفلسطينية أو سوء موقفه منها، مثل اقتراح القدس المحتلة مكاناً للمحادثات مع روسيا، ومثل تشبيهه التهديد الذي تتعرّض له أوكرانيا "أعداؤنا يريدوننا أن نموت" بالتهديد الذي تواجهه إسرائيل، كما لو أنّ هذه حمامة سلام)، كما أظهر الرجل شجاعة لم يكن ينتظرها منه الأميركيون، حين عرضوا عليه منذ بداية الحرب مساعدته في الخروج من العاصمة كييف إلى لفيف في غرب البلاد. وقد أجاد زيلينسكي كسب العالم عبر وسائل التواصل وباللباس البسيط الذي يظهر فيه، فيما اعتدنا أن يهتم قادة "القضايا" العربية بمظهرهم، ويبرزون للناس بكامل الأناقة الرسمية، فيما قضاياهم تتعفر في الوحل، وناسهم يعيشون الويلات (لا يمكن، في هذه الحالات، فصل المظهر عن المضمون). هل كان الرجل بقوله ذاك ينتقد بايدن، لأنه لم يَحُل، أو لم يحاول جدّياً الحؤول، دون الغزو الروسي؟ أم أنّه كان يحرّض الرئيس الأميركي على التدخل الجاد والفعال لوقف الحرب؟ أي هل كان ينتقده لأنه لم يكن "قائد السلام"؟ في الحالتين، واضح أنّ لدى زيلينسكي شعور بالخذلان من الجانب الأميركي "قائد العالم" إنْ قبيْل اندلاع الغزو أو بعده، وهو ما تدفع ثمنه أوكرانيا من أهلها وثروتها وبنيانها، الأمر الذي يبدو قليل الوزن في الصراع بين "القوى العظمى" على كلّ حال.
الخسارة الروسية حصلت سلفاً، ليس فقط بمعنى خسائر الحرب بل وأيضاً خسائر تتعلق بموقع روسيا لدى الرأي العام في العالم
من التعقيدات في حالات كالحالة الأوكرانية اليوم، وجود تعارض بين سيادة الدولة الأوكرانية وحقها في اختيار تحالفاتها السياسية والعسكرية، وبين متطلبات أمن الدول العظمى التي يمكن أن تحد كثيراً من سيادة الدول غير العظمى. والمفارقة أن الأيديولوجيا السياسية الوحيدة لدى روسيا بوتين اليوم هي السيادة الوطنية التي يواجه بها تدخلات الغرب. الدفاع عن السيادة الوطنية الروسية ومنع تمدّد "الناتو" إلى أوكرانيا "روسيا الصغرى"، يأتي، كما هو مفهوم، على حساب السيادة الوطنية لأوكرانيا. هذا التعقيد يجعل من الحرب طريقاً حتمياً إذا ما سار كل طرفٍ على طريق سيادته الخاصة، من دون البحث عن تسويات، وهذا سوف يقود، غالباً، إلى خسارة الطرف الأضعف، أو إلى انتصاره ربما ولكن بخسائر هائلة تجعل من النصر معادلاً للهزيمة.
نظرياً، لا يمكن لأحد أن ينكر على أوكرانيا حقها في الانضمام إلى "الناتو"، أو إلى الاتحاد الأوروبي، وسيكون هذا الحق ركيزة لأعمال مقاومة "وطنية" مشروعة سياسياً وأخلاقياً ضد من ينكره عليها. ومن ناحية أخرى، لا يمكن لأحد أن يتوقع قبول دولة كبرى عسكرياً مثل روسيا (لا يهم أن تكون دولة عادية اقتصادياً، وهو كلام صحيح، فإجمالي الناتج المحلي لروسيا لا يزيد عنه لإسبانيا) أن تصبح أوكرانيا في الحلف العسكري المعادي تاريخياً لروسيا، وأن تخسر موسكو شقيقتها الصغرى وتصبح تحت تهديد "الضربة المباغتة". ومن المفهوم أن تقاوم روسيا، قدر استطاعتها، هذا الاحتمال، ولو في غزو واجتياح وما ينطوي عليه ذلك من فظائع وجرائم، وسوف يجد بوتين نسبة غالبة من الروس "المتفهمين" للضريبة التي عليهم دفعها مقابل "عدم حني الرأس"، كما عبر بوتين نفسه (هناك من شبّه حرب روسيا على أوكرانيا بجريمة شرف جيوسياسية). وملحوظ أن بوتين يحقن الرأي العام الروسي بدوافع أخرى، دينية وأخلاقية، بالكلام عن التهديد الغربي للقيم الروسية التقليدية، وبإقحامه الكنيسة الروسية في الحرب وجعل بطريرك روسيا يخطب في الضباط الروس قبيل بدء الهجوم على أوكرانيا. هذا التعارض بين "الحقين"، الروسي والأوكراني، يفتح باباً لحربٍ مدمرة، فكل طرف يرى، من زاويته، حربه عادلة. وتكون هذه الحرب مدمرة أكثر، كلما توفرت للطرفين سبل استمرار الحرب ووسائله، تماماً كما شهدنا في سورية سنوات. هذا النوع من الحروب، غير الخاطفة، مناخ مناسب بالنسبة لتجار الحروب، مثل المريض الذي لا يموت ولا يشفى بالنسبة للطبيب.
لدى زيلينسكي شعور بالخذلان من الجانب الأميركي "قائد العالم" إنْ قبيْل اندلاع الغزو أو بعده
من الواضح أن سير الحرب ليس كما كانت تتمنّى روسيا أو تتوقع، ولكن إذا ما انتهت روسيا، في نهاية المطاف، بفرض شروطها، كاملة أو ناقصة، على أوكرانيا فإن الخسارة الروسية تكون قد حصلت سلفاً، ليس فقط بمعنى خسائر الحرب بل وأيضاً خسائر تتعلق بموقع روسيا لدى الرأي العام في العالم، وإنْ يرافق هذا تحسنٌ لصورة روسيا لدى الحكام المستبدّين الذين يرون روسيا حليفاً موثوقاً لا يحيد عن هدفه ويمكنه، في دعم حلفائه، أن يتجاوز ما يمكن أن يعيق غيره من معايير الحروب وحقوق الإنسان .. إلخ، بسبب تحرّره من الرقابة الداخلية التي تحدّ من حرية القادة الغربيين. ومن ناحية أخرى، إذا فشلت روسيا في فرض شروطها وخرجت أوكرانيا "منتصرة"، وفرضت لنفسها وجوداً أكثر استقلالية عن روسيا، فإن في هذا مكسبا أميركيا صريحا، عندها تكون روسيا تكبّدت ليس فقط خسائر الحرب المادية والبشرية، بل وخرجت من دون مكاسب فيما تبرز أميركا، بنجاحها في تعزيز حلف غربي نادر المثال في وجه روسيا، على أنّها راعية الانتصار الأوكراني.
ما سبق لا يلغي أنّ السياسة التي اعتمدتها إدارة بايدن تجاه الأزمة الأوكرانية (عدم البحث عن تفادي الحرب، سواء بالتفاوض الجاد أو إظهار الحزم العسكري إزاء الاستعدادات الروسية) عزّزت خسارةً أميركيةً بات يدركها العالم، أنّ "قائد العالم" ليست من أولوياته "سلام العالم" أي أنّ قائد العالم ليس "قائد السلام" كما تمنّى أن يكون رئيس أوكرانيا المنكوبة.