في وداع حقوقي مَغربي
يضرب الموت بقوّة في الآونة الأخيرة، فأينما ولّيت وجهكَ، طالعتكَ أخبارُه وهو يحصد مزيداً من الأرواح بجدّ واجتهاد وصمت، عكس ما يفعله في غزّة العزّة بواسطة عصابة الصهاينة المُجرمين، الذين يهدمون البيوت على رؤوس ساكنيها، ولا يرقبون في أحبابنا الفلسطينيين إِلّاً ولا ذمّة، وذلك، على مرأى العالم ومسمعه. فهل هذا الموت الصامت هو من تداعيات التلقيح اللعين، الذي سعى الغرب "الديمقراطي" بواسطته إلى محاولة التخلّص منّا بـ"الحسنى"، نحن غُثاء السيل؟... والمؤلم الصادم أنّه (الموت) يترك أراذل القوم الذين يسرقون أرزاق المُستضعَفين من الناس، ويعيثون في الأرض فساداً، ليخطف الفضلاء الشرفاء، الذين ينذرون حياتهم للدفاع عن المُثل العليا والقضايا العادلة.
وبِغضّ النظر عن تسليمنا بقضاء الله وقدره، قد يتقبّل المرء منّا وفاة شخصٍ بلغ من الكبر عتيّاً بعدما فعلت به الأدواء (جمع داء) أفاعيلها، ولكنّه يجد صعوبةً جمّة في هضم وفاة رجلٍ من الصادقين المُخلصين، وهو في عنفوان صحّته وعافيته، ومحبوب من الخاص والعام، كان في لقاء مصوّر مع صحافي يدافع عن بعض القضايا الإنسانية العادلة، فإذا به، وهو في قمّة حماسته واندفاعه، يطأطِئ رأسَه فجأةً، ثمّ يرخي هامته على صدره، كأنّما أخذته سِنة من الكَرى، بينما، في تلك اللحظة الرهيبة الحرجة، كان الموت المباغت يعبر به، بسرعة البرق، ذاك الخطّ الدقيق الفاصل بين دار البقاء ودنيا الفناء.
المقصود هو الأستاذ الجامعي والمحامي الألمعي، المناضل الحقوقي المغربي، عبد العزيز النويضي، الذي صدمت وفاتُه المفاجئة كلَّ المناضلين الحقوقيين، ومجمّعَ المحامين، والأساتذةَ الجامعيين، وكلَّ من كان له تعرّف إليه من قريب أو من بعيد، فالرجل كان قد نذر حياته للدفاع عن القضايا الإنسانية العادلة، فخاض من أجل ذلك المعارك الصعبة بهدف إرساء قواعد الديمقراطية الحقّة. وتشهد له ردهات المحاكم في المغرب بمرافعاته العصماء في كلّ المحاكمات، التي خضع لها نشطاء الحركات الاجتماعية، كمعتقلي حراك الريف، ومحاكمات الصحافيين المُستقلّين، وغيرهم من النشطاء السياسيين، الذين وُزّعت بينهم قرون من السجن بقصد لجم الأفواه الحرّة، وتخويف مَنْ ما زالت في مخيّلته ذرّة من حلم التغيير. كما أنّ جدران المُدرّجات في الجامعات ما زالت تُردّد محاضراته الرفيعة، التي امتلأت بها أسماع طالباته وطلبته، الذين يكنّون له فائقَ التقدير وعظيمَ الاحترام. وحتّى المحافل الدولية، التي كان يغشاها، مُمثّلاً للكونفدرالية الديموقراطية للشغل، وزعيمها الراحل محمد نوبير الأموي، أو مستشاراً في حقوق الإنسان للوزير الأول الأسبق عبد الرحمن اليوسفي، أو رئيساً لمنظمّة عدالة، أو كاتباً عامّاً لمنظمّة ترانسبرانسي، أو عضواً في الجمعية المغربية لحماية المال العام، أو غيرها من المُنظّمات العديدة، التي كان له فيها وزن ثقيل، وكانت تدافع جميعها عن حرّية الإنسان وكرامته، سيّما القضية الفلسطينية، التي كان يعانقها كما يعانق دينه، وضحّى من أجلها رافضاً وساماً رفيعاً من الجمهورية الفرنسية الحليفة لكيان الإبادة الإنسانية في فلسطين المُحتلّة.. إلّا وقد تشرّبت قاعاتها بذبذبات رنّات صوته الدافئ الصافي، وهو يصرخ مُنافحاً عن حقوق إنسانية ضيّعها الجشع والتسلّط والطغيان.
كان يعانق القضية الفلسطينية كما يعانق دينه، وضحّى من أجلها رافضاً وساماً رفيعاً من الجمهورية الفرنسية الحليفة لكيان الإبادة الإنسانية في فلسطين
عرفتُ الرجل لمّا كان مستشاراً للوزير الأول في حقوق الإنسان. وقصدناه، نحن قدماء سجن تزممارت الرهيب، من أجل السؤال عن ملفّنا المُتعلّق بالإدماج الإداري، الذي ما زال مُعلّقاً بفعل فاعل. وأذكر أنّنا التقيناه في مدخل بناية وزارة المواصلات، التي كانت قد حُوّلت بعض طوابقها مقّراً لمكتبه. وأول ما أثار انتباهنا، اختلافه المُطلق عن جُلّ نماذجِ الموظّفين الحكوميين السامين، الذين كانت الأقدار تُرغمُنا على اللقاء بهم، والذين عادةً ما يكونون عَبوسين ومُتكبّرين، يجلسون وراء مكاتبهم في عجرفة وفخفخة، ويطالعونك بنظراتٍ مُمتعضة ومستفزّة، يُلقون إليك بكلامٍ مُبهمٍ، يُشعرونك من خلاله أنّك مَضيعة لوقتهم الثمين. لم يكن النويضي من ذلك الصنف، بل كان هاشّاً باشّاً مُتواضعاً، على استعداد فطري للبسط والتنكيت، وكأنّ في قلبه سدّاً محبوساً من المرح، لا ينتظر سوى من يثيره بكلمةٍ بسيطة أو إيماءة صغيرة، لتنفجر قهقهته مُدوّية في المكان. وحين همّ، مع أصدقائي، بأن يأخذوا المصعد، توجّهتُ أنا، كعادتي، إلى السلالم، بسبب الفوبيا التي استوطنت قلبي بعد ما عشت من هلعٍ في مصعدَين تعطّلا في منتصف الطريق، فإذا به يناديني، ويقسم عليّ قسماً مغلّظاً، وهو يضحك ملء حنجرته، أن أصعد معه على غرار رفاقي. لم أجد بدّاً من الانصياع، فقال لي، ونحن محبوسون في القفص الحديدي المُتحرّك، وبسمته العريضة تنقلب بسرعة إلى ضحك مُنشرح: "تريد أن تنجو وحدك؟ لا يا أخي. فلْنمتْ جميعاً لو قدّر لهذا اللعين أن يصاب بعطل. فأنا مثلك أمقت هذه المصاعد الكريهة ولا أستعملها إلا مُرغماً، وسأحكي لك ما جرى لي معها، في مرّات عديدة". وبالفعل، ستتوطّد علاقتنا لاحقاً، وسيحكي لي من المغربات ما دوّنته من دون ذكر اسمه في أقصوصة "المصعد"، في مجموعتي القصصية "النبأ العظيم" (2021). وما زلتُ أذكر أنّنا لمّا دخلنا مكتبه وانبهرنا بما فيه من حواسيب ومكاتب، قال لنا ضاحكاً، كعادته: "لا تتركوا أفواهكم تنفغر هكذا أيها الخارجون من جنان تزممارت، ولا تذهلكم هذه الحواسيب والمطبعات والفاكسات والهواتف، إنّها وضعت من دون شكّ، خصّيصاً للتأثير في الزوّار، أما أنا، فتيقّنوا أنّي لا أستعملها بالمرّة". ومن يومها، ونحن نلتقي بتقطّع بعض المناضلين الصادقين، الذين لم يبدّلوا تبديلاً.
وبما أنّه لم يكن راضياً عن عشرات السنين السجنية، التي وُزّعت كيفما اتفق على نشطاء حراك الريف، والصحافيين المُستقلّين، مثل توفيق بوعشرين، وعمر الراضي، وسليمان الريسوني، وغيرهم، فإنّه اقترح على المجاهد الراحل محمد بن سعيد آيت إيدر أن يصحبه عند رئيس الحكومة الأسبق، الاشتراكي عبد الرحمن اليوسفي، كي يتوسّط لهما عند الملك لإصدار عفو عام عن جميع المُعتقَلين، إلا أنّهما صدما عندما أعرب لهما الرجل عن رفضه، بكيفية لبقة، وهو على بُعد أيام قليلة من رحيله، قائلاً: "أنتما فيكما البركة". وقد كانت عادته، كلّما التقاني، أن يبادرني بسؤاله المعهود: "هل ما زلت في قيد الحياة أيّها الحيّ الميت؟ هل من نكتةٍ جديدة؟ أراك ضاحكاً أبداً، وكأنّ الحسن الثاني أرسلكم إلى تزممارت لكي تمرحوا وتصنعوا النكت".
كان لقائي به بأسبوع واحدٍ قبل رحيله، رحمه الله! ولما حكيتُ له نكتة أضحكته من الأعماق، لم أكن أعلم أنّها ستكون النكتة الأخيرة، التي سيعقبها حزنٌ جارفٌ عميقٌ على رحيله المُفاجئ، الذي ملأ الدنيا وشغل الناس.