في هجرة الأطباء الجزائريين
أسال نجاح أطباء جزائريين عديدين في اختبار التيقن من المعارف (معادل للشّهادات)، في فرنسا، أخيرا، حبرا كثيرا من دون أن تثار الإشكالات الحقيقية التي، في بعضها، تحمل مرارة متصلة، في المقام الأول، بغياب سياسات عامة لتثمين الموارد البشرية في الجزائر، من ناحية، وشرعية البحث عن الفضاءات الأمثل لإطلاق العنان للطّاقات العلمية والمهنية، من ناحية ثانية. وتحاول المقالة النظر في تلك السياسات العامة، والإجابة عن أسئلةٍ أثيرت من دون أن تكون من صميم المقاربة الصّحيحة في الطرح، إضافة إلى أنها لم تذهب إلى صلب الإشكالات التي تثيرها قضية أكبر، هجرة الأدمغة إلى الغرب.
بدايةً، من المشروع البحث عن الفضاءات التي تتناسب مع الحاجات التي يتطلبها إطلاق العنان للطّاقات، خصوصا مع مهنة شاقة ودقيقة، مثل الطب، حيث تطول أعوام الدّراسة والصّبر على طلب العلم، مع ما يتضمّنه، ذلك، من التّضحيات بالنّسبة للطّلبة أنفسهم ولأوليائهم الذين يتكفلون بتلك الدراسة الطّويلة (7 سنوات لشهادة الطب العام وبين 9 و12 عاما بالنسبة للتخصص). كما يجب الإشارة، هنا، إلى أنّ المنظومة الصحية الجزائرية المهترئة، أصلا، استطاعت، بالرغم من كل الصعاب، البقاء في قمّة الجودة بالنّسبة للعلم الذي تكفله للطلبة في الجامعات وبالمجان، طبعا، مع ضمان منحة، وإن لم تكن كبيرة، من حيث الحجم والقيمة، ما يدلّ على أن المنظومة العلمية الجزائرية ما زالت تحمل بعضا من الإمكانات التي تتضمّن التنافسية والإنتاج للطّاقات العلمية والموارد البشرية ذات الجودة الموازية لما نراه في الغرب، خصوصا في أوروبا القريبة من الجزائر. وهذا يترجم الاستثمار في العلم الذي تقوم به السلطات العمومية، حتى لا ُيقال إنّ الانتقاد والسوداوية هما سمات الحديث لدى الجزائريين على السلطة وما توليه للعلم والتربية، بصفة عامّة.
يمكن للسُّلطات العمومية التفكير فيما يمكن أن يجعل من تلك الفئة "طبقة مميّزة"
لكن، وهنا يكمن الشق الآخر الذي فشلت فيه السّلطات العُمومية فشلا ذريعا، حيث لم تعمل على التّخطيط للحفاظ على تلك الطّاقات والموارد البشرية الغنية جدّا، وكأنّ الجزائر تعمل على الاستثمار لصالح عوامل جذب أفضل لتلك الطّاقات، في الغرب وكندا، على وجه الخصوص، بسبب عامل اللغة، أساسا، مع العلم أنّ إنتاج طبيب واحد، في الطب العام أو في التخصص، يعادل قيمة استثمار قد يقارب أو يفوق، بقليل، ربع مليون دولار تقريبا (250 ألف دولار)، وهو رقم كبير لدولة ريعية، مثل الجزائر، تعتمد على اقتصاد طاقوي، بنسبة تكاد تكون كاملة. وهي، بالتالي، يجب أن تكون عملية في استعادة الأموال المستثمرة في تكوين هؤلاء الأطّباء، وليس تركهم يهاجرون.
يُدفع لهؤلاء الأطباء، عند تخرّجهم، رواتب لا تكفي لتلبية حاجاتهم الحياتية، كما لا تتناسب مع طموحاتهم بعد كلّ تلك السّنوات من الدراسة والتضحية، ما يدفعهم إلى البحث عن فضاءات تتناسب مع متطلباتهم العلمية والحياتية. وهنا يأتي الشق الآخر من الجودة التعليمية التي تتكفل بها السُّلطات العمومية، حيث يجب تشخيص وضعية السياسة العامة الصحية وحاجتها إلى مرافق وموارد بشرية مع ربط ذلك بعوامل جذب تتناسب مع مطالب تدفع نحو بقاء تلك الطّاقات في البلاد، عوض الهجرة إلى الخارج، حيث لا يمكن، طبعا، دفع الأجور بما يمكن الحصول عليه في الغرب. ولكن، على أقل تقدير، يمكن للسُّلطات العمومية التفكير فيما يمكن أن يجعل من تلك الفئة "طبقة مميّزة"، خصوصا مع ما شهده العالم، في العامين السابقين، مع الجائحة، والحاجة إلى منظومة صحية تنافسية وقادرة على الاستجابة لمطالب محاربة فيروس شرس، وبتضحياتٍ لا يمكن أن يقوم بها إلا فريق صحّي احترافي، ويكون عالي الجودة، حقّا.
التخطيط والاستثمار في الموارد البشرية انطلاقا من التعليم، بمختلف مستوياته، لجعله تنافسيا وذا جودة
بالنتيجة، الإشكالات التي تطرحها قضية هجرة هؤلاء الأطباء أبعد مما قاله محللون في القنوات الجزائرية، أو على مستوى وسائل التّواصل الاجتماعي، حيث جرى تحميل هؤلاء الأطبّاء تبعات الهجرة، معتبرين أن ما قاموا به ابتعاد عن خدمة بلدهم، وأن القبول بالوضع، كما هو، من حيث الرّواتب، بصفة خاصّة، يعدّ من الصبر على سياسة عامة صحية، تحتاج إليهم بصفة حيوية، وأن هجرتهم هو بمثابة فرارهم من رد الجميل للبلاد. وهذا، في بعضه، وجهة نظر مقبولة، لو أنها توازت مع قراءة جيدة للوضع الحالي للمنظومة الصحية، ورفع المطالب بتحسينها من كل الجوانب، مع اعتبار الجائحة الحالية مُنعرجا في وجوب الاهتمام بهذه الفئة، ورفع مقامها إلى الشّأن الاستراتيجي الحيوي بالنسبة للبلاد، بل وضعها في مقام القضايا الأمنية القومية، باعتبار تداعيات ترك تلك الطاقات مُهملة ومُهدرة إلى درجة استقطاب الغرب لها، وكأنّ المال الجزائري يرمي، هكذا، إلى منظومات صحّية هي أفضل من الشّأن الصّحي الحالي لبلادنا.
إذن، هناك جانب من الحقيقة في تلك الانتقادات لموجة الهجرة الجماعية للأطباء، وهي ظاهرة مُلاحظة، أيضا، على فئات واسعة من الكفاءات الجزائرية في ميادين أخرى. ولكن يجب إرفاق ذلك بنداء لتكفّل أفضل بالطاقات/ الكفاءات، على مستوى مختلف الأصعدة، علميا ومعرفيا وحياتيا، ما يرفع من فرض البقاء في الجزائر، وهو ما يُعرف في السياسة العامة، لأي بلد، بالتخطيط والاستثمار في الموارد البشرية انطلاقا من التعليم، بمختلف مستوياته، لجعله تنافسيا وذا جودة، مرورا بالتخطيط لاستيعاب تلك الطاقات، مستقبلا، ووصولا إلى جعل تلك الفُرص الاستثمارية في الموارد البشرية عوامل جذبٍ قد تصل إلى وجوب ربط تلك الجودة التعليمية بعقد يوثق التّكفّل بالتعليم مقابل مستقبل مقبول، علميا وحياتيا، مع ضمان البقاء في البلاد بوضع مهني مضمون من حيث المنصب الجيد والرّاتب المتناسب مع جودة الكفاءة.
تحتاج الجزائر إلى كل طاقاتها، ولا يمكن الإبقاء على الظروف نفسها التي تعمل على إهمالها، ثم إهدارها بتركها تبحث عن عوامل جذب أفضل
تحتاج الجزائر، على غرار بلدان تعيش الأوضاع نفسها، على المستوى الاقتصادي بصفة خاصة، إلى كل طاقاتها، ولا يمكن الإبقاء على الظروف نفسها التي تعمل على إهمالها، ثم إهدارها بتركها تبحث عن عوامل جذب أفضل، في فضاءاتٍ ممّا يستدعي، من السلطات العمومية، التفكير في جلسات عامةٍ تبحث من خلالها بصفةٍ عاجلةٍ هذه القضية، مع التوصية بوجوب ربط ذلك بالتوصيات التي كان الرّئيس تحدّث عنها، منذ أسابيع، فقط، واعدا بالتكفل بتلك المطالب في سبيل منظومة صحية ذات جودة عالية، وهي دعوة ملحّة، الآن، مع موجة هجرة الأطباء، إلى تفعيل تلك التوصيات، وتحويلها إلى سياسة عامة ترفع من شأن الكفاءات، على مختلف الأصعدة، مع منح الأولوية، بسبب الجائحة، لوضعية الأطباء والطواقم الصّحية، ما سيعمل، مستقبلا، على إبقائهم في خدمة الصحة في الجزائر، مع العلم أن كندا، مثلا، نشرت، قبل أسابيع، أيضا، نداءً لاستقطاب ممرّضين، وهو ما سيدفع، إذا لم يجر العمل على تحسين الوضع، بصفة عاجلة، العاملين في المنظومة الصحية على إفراغها من كوادرها، وبالتالي تركها تتدهور، والجزائريون في أمس الحاجة إليها لربح معركة القضاء على الجائحة التي ضحى، خلالها، الأطباء والطواقم الصحية كثيرا في سبيل احتواء انتشارها على مر الموجات التي عرفتها الجزائر، منذ بداية الوباء.
تلك هي السياسة العامّة، خصوصا الصّحية منها، هنا، وتلك هي مقاربات العمل لإنجاحها، ذلك أنّ الثّراء الحقيقي هو الاستثمار في البشر، لكن مع ضمان عوائد ذلك الاستثمار، ومنها الاستثمار في عوامل الجذب، وليس الدّفع لتك الطّاقات/ الكفاءات نحو الهجرة .. فهل من مصغٍ؟