في غياب النهج الاستقلالي للإعلام الغربي

11 ديسمبر 2023
+ الخط -

كشفت الحرب الإسرائيلية المستمرّة على قطاع غزّة عن مواقف منحازة بشكل مطلق لإسرائيل في مختلف وسائل الإعلام الغربية، خصوصا الرسمية منها، وتلك الخاضعة لتأثير مجموعات ضغط صهيونية أو قريبة منها. والمستغرب أن الآلة العسكرية الإسرائيلية استهدفت بشكل متعمّد العاملين في وسائل الإعلام في غزّة، وقتلت عديدين منهم، من دون تلقى الشجب والإدانة من أغلب وسائل الإعلام الغربية.
لم يقتصر الأمر على تبنّي الرواية الإسرائيلية كاملة، وما يعتريها من افتراءاتٍ وأكاذيب، بل وضعت حكومات دول غربية  قيودا على حرية التعبير وحق التظاهر، وعلى حرية وسائل الإعلام، التي تعرّضت لانتهاكات عديدة. إضافة إلى المضايقات من أصحاب رؤوس الأموال والداعمين، ووصلت إلى حدّ وقف الدعم عن أي وسيلةٍ تنصف الضحايا المدنيين في غزّة، وتهديد العاملين بفصلهم وقطع موارد أرزاقهم، لذلك لجأ بعضُهم إلى عالم الإنترنت من أجل تفادي هذه المعيقات والمضايقات، وبما يمكّنهم من مواصلة نشاطهم الصحافي بنوع من الحرية، على الرغم من إمكانات الإنترنت العظيمة في تبادل المعلومات ونشر الأفكار، إلا أن هذه المعلومات والأفكار لا تصل إلى كل شخص، نظراً إلى القيود المادية والسياسية.
إذاً، غاب النهج الاستقلالي الذي يفصل بين وسائل الإعلام وأجندات الحكومات وسياساتها في كل من الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وفرنسا وسواها، حيث تبنّت وسائل الإعلام مصطلحات تركز على "الإرهاب" و"الإرهابيين" في غزّة، وعلى معاناة الرهائن الذي أفرجت عنهم حركة حماس، وعلى تفاصيل حياة القتلى الإسرائيليين، بينما صمتت في المقابل عن معاناة المدنيين وعن تفاصيل حياتهم، جرّاء حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل عليهم، ولم تأتِ على ذكر الضحايا الفلسطينيين إلا أرقاما، في انحياز واضح لإسرائيل وابتعاد فاضح عن مبادئ الشفافية والحياد المطلوبين مهنياً، مع التستر على تفعيله الآلة العسكرية الإسرائيلية في غزة، وعدم التطرق إلى خطابة الإبادة الذي يتبناه بنيامين نتنياهو وحكومة حربه، وتجسيداته التي تتجلى في أعمال قتل جماعي للفلسطينيين.

اعتبرت بعض وسائل الإعلام الغربية أن استضافة كل من يؤيد القضية الفلسطينية أمر خطير

وصل فقدان الاستقلالية إلى حدّ عدم إتاحة الفرصة لأي شخص يعبّر عن مواقف الفلسطينيين، أو من يؤيد قضيتهم وحقوقهم، بل اعتبرت وسائل إعلام غربية أن استضافة كل من يؤيد القضية الفلسطينية أمر خطير، وقامت في بعض الأحيان بقطع الاتصال مع ضيوف حاولوا انتقاد ما تقوم به إسرائيل في حربها على قطاع غزّة، حيث إن انتقاد جرائمها بات خطّاً أحمر لدى أغلب وسائل الإعلام، ويجري تبريره بالتذرع بسياسات التحرير. وذهبت بعض وسائل الإعلام إلى تشبيه حركة حماس بتنظيم داعش، وتبنّت ما طالب به الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، في زيارته تل أبيب، بمحاربة "حماس" وفق الأساليب نفسها التي استخدمها التحالف الدولي في حربه ضد "داعش"، ولم تعلق كثيراً على التصريحات الإجرامية لرئيس الوزراء السويدي، أولف كريسترسون، "إن لدى إسرائيل الحقّ في ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية"، وحين تعالت أصوات التنديد بما قاله، حاول التنصّل منه.
المشكلة أن روح التضامن القَبَلي، بحسب وصف الفيلسوفة الأميركية، سوزان نيمان، ما ساد في ألمانيا والغرب بعد عملية طوفان الأقصى التي نفذتها حركة حماس في 7 أكتوبر، وصلت أيضاً إلى وسائل الإعلام الرسمي الغربية، ودخلت الديمقراطية في أصعب امتحان لها في هذه البلدان، بالنظر إلى سيادة عصبية غريبة في المواقف، تمخّضت عن تشكيل المسؤولين السياسيين الغربيين ما يشبه جبهة أو حزباً داعماً لإسرائيل، تماهت معه معظم وسائل الإعلام، أو على الأقل لم تنأى بنفسها عنه، من خلال مساندة أطروحات الساسة وتبني مواقفهم من دون التحقق من صحة ادعاءاتهم. وحاول هذا الحزب فرض مقولاته على مختلف الأوساط الإعلامية، حيث يكفي أن نذكر، مثالا، أن بعض أطراف هذا الحزب مارست ضغوطاً كبيرة على شبكة الأخبار والمعلومات البريطانية "بي بي سي"، من أجل اعتماد توصيف "حماس" منظمة إرهابية، لكنها لم تتبنّ ذلك، على الرغم من أن تغطيتها الحرب الإسرائيلية على غزّة بقيت منحازة لإسرائيل. 

لا يمكن التغاضي عن فقدان الاستقلالية لصالح الانحياز الأعمى الرامي إلى الدفاع عن كيان إسرائيل الاستيطاني، الذي تحوّل إلى دولة محتلة شرسة

لم تجد نيمان سوى الدعوة إلى التخلص من الروح القبلية لدى ساسة الغرب، كي يكون لديهم مبادئ، لكن يبدو أنهم لم يكترثوا بها، فلم يتمسّكوا بالقيم والمبادئ الأخلاقية المفترض أن تجمع كل البشر، بوصفها أساس الحوار والتواصل بينهم، وجوهر الحكم على المواقف والتصرّفات وطرح التطلعات والمطالب العادلة، بل آثروا الانحياز إلى عصبية قبلية مبطّنة بنفاق أخلاقي يغطي مصالحهم الضيقة. 
ولعل السؤال المطروح: لماذا ذهبت وسائل الإعلام في أغلب دول الغرب في نفس الاتجاه، وتبنت موقف المنحاز لإسرائيل على الرغم من جرائمها؟ وهل يمكن اعتبار أن دول مثل ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا وسواها ما تزال تشعر بالذنب عما ارتكبته بحقّ اليهود خلال عهد النازية وعبر قرون من معاداة اليهود وكرههم، على الرغم من أن هذه الدول لا تتشابه بما فعلته بهم، فضلاً عن أن إسرائيل لا تمثل يهود العالم، حيث إن ملايين اليهود الذين يرفضون ادّعاءها تمثيلهم، كما يرفضون بشدة ما تقوم به من جرائم باسمهم، وخرج عشرات الآلاف منهم في تظاهرات في نيويورك وواشنطن وسواهما ضد حربها العدوانية على غزّة، واقتحموا مبنى الكونغرس للمطالبة بوقفها؟  
لا يمكن التغاضي عن فقدان الاستقلالية لصالح الانحياز الأعمى الرامي إلى الدفاع عن كيان إسرائيل الاستيطاني، الذي تحوّل إلى دولة محتلة شرسة، يقودها ساسة وجنرالات يمين عنصري متغطرس، لا يتوقفون عن اتباع نهج التوسع والاستحواذ وقضم أراضي الشعب الفلسطيني من دون وجه حقّ، مهما تمادت وسائل الإعلام في محاولاتها طمس الحقيقة وتزييف الواقع والتستر عليه. ولا يفسّر ذلك الانحياز أن معظم دول الغرب لها تجارب مع الاستعمار ذاته، على الرغم من تشابه أشكاله ومضامينه وممارساته مع الاحتلال الصهيوني.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".