في عودة الحديث عن حرب أهلية إسرائيلية
إذا كانت عملية طوفان الأقصى قد غيَّبت الكلام الذي ساد طويلاً في الفترة التي سبقتها، وتوقّع فيها مسؤولون وسياسيون ومحللون، وأيّدتهم استطلاعات رأي، اندلاع حرب أهلية إسرائيلية، فإن هذه العملية وتداعيات الحرب الإسرائيلية القائمة على غزّة لم تلغِ أسباب اندلاعها، بل على العكس، قد تصبح من العوامل التي ستزيد في أسباب ذلك الاندلاع. وفي هذا الإطار، لوحظت في الأيام القليلة الماضية العودة إلى التحذير من حربٍ أهليةٍ إسرائيلية، خصوصاً في ظل الحديث عن فشل الجيش الإسرائيلي وحكومة الحرب في مهمة القضاء على حركة حماس، وتوصُّل بعض الإسرائيليين إلى قناعة بشأن صعوبة تحقيق هذا الهدف، علاوة على صعوبة استمرار الحرب على الشاكلة التي تجري وفقها. ويأتي هذا الكلام في وقتٍ يصرّ فيه قسم كبير من غلاة اليمين المتطرّف، الشريك المتدين في الحكومة، على عدم المشاركة في الأعباء الحكومية، ومنها المتعلقة في الحرب على غزّة، بينما في الوقت عينه يطالبون بمخصّصات إضافية، منها ما يتعلق بتسليح المستوطنين بالرشّاشات، وتزويدهم بأجهزة حماية ومراقبة، مقدّمةً لتشكيلهم مليشيا خاصة بهم.
وفي هذا السياق، لا يمكن أن تمر تصريحات رئيس الأركان الإسرائيلي السابق دان حالوتس أخيرا عن احتمال اندلاع حربٍ أهلية إسرائيلية، مرور الكرام، لو لم يكن خطرها ما زال ضاغطاً؛ إذ دعا في مؤتمر حركة الاحتجاج ضد التعديلات القضائية في حيفا، أواسط ديسمبر/ كانون الأول الجاري، إلى إطاحة نتنياهو، بوصف الانتصار الوحيد الممكن تحقيقه، بعد فشل الجيش الإسرائيلي بالانتصار في الحرب على غزّة، عزل نتنياهو، كما قال. وبينما أقرّ حالوتس بأن إسرائيل لم تنتصر في الحرب، قال إنها لن تنتصر فيها، بل إن ما سيكون هو صورة الخسارة بدلاً من صورة النصر، لذلك لا بد من خلع نتنياهو. وتوقَّع أن يطلق أنصار وزير الأمن القومي اليميني المتطرّف إيتمار بن غفير النار على المتظاهرين الذين دعاهم حالوتس إلى الاستعداد لمعركة إطاحة رئيس الحكومة، ما قد يؤدّي إلى انزلاق المجتمع إلى حرب أهلية.
زادت فرص اندلاع قلاقل داخل الكيان بسبب زيادة تغوُّل اليمين المتطرّف في مفاصل الدولة
وليست هذه المرّة الأولى التي يتحدث فيها حالوتس عن حرب أهلية إسرائيلية، إذ تحدّث عن الأمر في بداية السنة الماضية، وكذلك في أكتوبر/ تشرين الأول سنة 2022. وفي جميع تصريحاته عن الحرب الجارية، كان بن غفير حاضراً، وأفصح فيها عن مخاوفه من تنفيذ الأخير أفكاره الخطيرة، وهو كلام يأتي بعد توجّه هذا الوزير إلى تشكيل مليشيا خاصة بالمستوطنين بتمويل وتسليح من الحكومة اليمينية التي يشارك فيها. وذهب حالوتس بعيداً حين قال إن الحرب الأهلية قد اندلعت عملياً سنة 1995، حين اغتال أحد أنصار بن غفير رئيس الوزراء الأسبق إسحاق رابين لأنه كان ماضياً في عملية السلام مع الطرف الفلسطيني وبقية العرب. وأشار إلى أن بن غفير سيعزّز الصدع الموجود في المجتمع الإسرائيلي بين اليهود الغربيين الأكثر علمانية وليبرالية، من النخبة الذين يديرون الاقتصاد ويدفعون الضرائب ويتحمّلون أعباء الخدمة العسكرية، والذين يطلق عليهم في الصحافة العبرية تسمية "إسرائيل الأولى"، واليهود الشرقيين وسكان المستوطنات من المتدينين والمتعصّبين الذين يسمّون "إسرائيل الثانية" الذين لا يخدمون في الجيش، بينما يطالبون بالاستفادة أكثر من مقدّرات الدولة وبإصلاح القضاء على طريقة نتنياهو في الإصلاح.
ليس لدى المجتمع الإسرائيلي المتناقض دينياً واجتماعياً وسياسياً ما يمنع انفجاره سوى الخطر الخارجي
في سياق التطبيع مع العرب، ربما ظهرت خشية لدى بن غفير وأنصاره من سكّان المستوطنات من تفكيك هذه المستوطنات التي يسكنونها، إذا ما انسحبت الحكومة الإسرائيلية من الضفة الغربية، ثمنا للتطبيع مع دول عربية أخرى. وبالتالي، يتكرّر السيناريو الذي حصل عندما قررت حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل أرئيل شارون الانسحاب من عزة وتفكيك المستوطنات فيها وترحيل المستوطنين منها بالقوة. لذلك لا مجال لديهم لمواجهة مخطط كهذا سوى التسلح وربما مواجهة الجيش لمنعه. وبفضل العقل الأمني لدى حالوتس، ربما يكون قد استشعر الخطر في بن غفير والمليشيا التي يعتزم تشكيلها، خصوصاً أن أنصاره حصلوا على 25 ألف قطعة سلاح من أصل 40 ألف قطعة صودق على تزويدهم بها لتأسيس فرق حراسة في المستوطنات، وفق وثائق نُشرت أخيرا.
وانطلاقاً من التسليم بأن المجتمع الإسرائيلي متناقض دينياً واجتماعياً وسياسياً، وليس لديه ما يمنع انفجاره سوى الخطر الخارجي الذي تمثل على مدى 75 سنة من عمر الكيان الإسرائيلي بالفلسطينيين والدول العربية المحيطة، فإن تراجع هذا الخطر في نظر بعض الإسرائيليين بعد اتفاقيات التطبيع الإسرائيلية مع دول عربية قد يؤدي إلى تضاؤل تأثير العوامل الجامعة. ومن هنا، زادت فرص اندلاع قلاقل داخل الكيان بسبب زيادة تغوُّل اليمين المتطرّف في مفاصل الدولة، وبروز قادته الأكثر تطرّفاً وفاشية على السطح واحتلالهم المشهد خلال السنوات الأخيرة مع وصولهم إلى الكنيست، ومشاركتهم في حكومة نتنياهو الحالية. وقد لوحظ الغضب والتوتّر وشدة الاستقطاب في المجتمع الإسرائيلي عندما نزل هؤلاء إلى الشارع بأعداد ضخمة لمواجهة المتظاهرين الذين كانوا يخرجون أسبوعياً احتجاجاً على التعديلات القضائية التي طرحها نتنياهو.
يحتاج المجتمع الإسرائيلي إلى مزيد من الديمقراطية لاحتواء الصراعات القائمة سلمياً
ويدفع اليمينيون من التيار الديني المتطرّف إلى إقرار التعديلات القضائية التي تهدف إلى تقييد السلطة القضائية واستقلاليتها، بما فيها المحكمة العليا، من أجل زيادة قوّة السلطة التنفيذية، وهو ما يعدّه بعضهم ضرباً من الدكتاتورية والاستبداد، في وقتٍ يحتاج فيه المجتمع الإسرائيلي إلى مزيد من الديمقراطية لاحتواء الصراعات القائمة سلمياً. أما هدفهم فهو دفع الحكومة إلى ضم الضفة الغربية وتشريع المستوطنات وتوسيعها، وفرض الالتزام الديني على المجتمع ومؤسّساته لتعميق سيطرتهم. وإذ تزداد قوتهم وتنمو شوكتهم يوماً بعد يوم، بعدما انتقلوا من الهامش إلى مركز السلطة، ربما نراهم قريباً في الشوارع لمواجهة المحتجّين من أهالي المحتجزين الإسرائيليين في غزّة، والذين تؤدّي حرب حكومة نتنياهو على غزّة إلى قتل بعضهم بفعل غارات الجيش الإسرائيلي الوحشية الذي لا يهتم قادته بحياة هؤلاء.
قبل اكتمال تسليح المليشيا التي يعتزم بن غفير تشكيلها، وقع حادثٌ أطلق فيه الجيش النار على مستوطنٍ مسلّح عن طريق الخطأ في القدس وأرداه قتيلاً، بعد الاشتباه بأنه من عناصر حماس، بداية الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول). وفي ظل هذا الانقسام، يمكننا توقُّع تكرار هذا الحادث مراراً بعد استلام أنصار بن غفير الأسلحة التي ينتظرونها، وحينها قد نشهد توتّراً سيزداد مع استمرار الحرب على غزّة، ومن الممكن أن يتطوّر هذا التوتر إلى اشتباكاتٍ قد تتطوّر بدورها إلى حربٍ أهلية، تتوفر الأرضية منذ تأسيس هذا الكيان لاندلاعها. وفي هذا الوقت، يتبادر إلى الذهن السؤال عما إذا كان الفلسطينيون أو العرب جاهزين لتداعيات سيناريو كهذا. قد يكون من وضع خطّة عملية طوفان الأقصى، ونفذها بتلك الحرفية، ويواجه الإسرائيليين في غزّة بصلابة، جاهزاً، أما ما عداه من الفلسطينيين والعرب فقد لا يكونون.