في سقوط الأقنعة
أيام وأسابيع من العدوان والقصف على قطاع غزّة وقتل آلاف المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ وإصابة آلاف الضحايا ناهيك عن الدمار والحصار ومنع المؤن الغذائية والوقود والأدوية وقطع الكهرباء والماء بما جعل من القطاع معزولا عن العالم وقطعة من جهنم تشتعل فيها النيران وتتصاعد منها ألهبة الدخان من دون توقف.
عنوان الحرب القضاء على حركة حماس التي أوجعت الكيان الصهيوني في السابع من الشهر الماضي (أكتوبر/ تشرين الأول) عبر هجوم طوفان الأقصى، وباطنها احتلال القطاع وتهجير سكانه وإلحاقه بغيره من المستوطنات في الغلاف ليخضع كليا لسلطة الاحتلال. يدفع قطاع غزّة الثمن غاليا لمقاومته وتمسكه بحريته المخطوطة بالدم وأرضه المكتنزة بالشهداء ولصموده ضد الترهيب والتجويع ومحاولات التشتيت.
بين دوي الصواريخ المتعاقبة تتعالى أصوات قادة الدول الغربية المجتمعة على خنق غزة ومخيماتها وتشريد الشعب الفلسطيني هناك، وفي مقدمتهم رئيس الولايات المتحدة التي وفرت الغطاء والإمكانات لدولة الاحتلال، لمواصلة حربها الجوية العنيفة.
مواقف غربية مخزية تكيل بمكيالين بين ما يحدث في أوكرانيا وتنديدها بالعدوان الروسي عليها ودعمها للقوات الأوكرانية بالأسلحة والعتاد للدفاع عن أرضها وحدودها وسيادتها وما يحدث في غزة وفلسطين من شيطنة للمقاومة وتبييض للإرهاب الصهيوني. في مقابل ذلك، المواقف العربية مهزوزة ومتردّدة في إدانة صريحة للعدوان الإسرائيلي ورفض الاحتلال في البداية، حتى أن بعض هذه الدول ساوت بين الفلسطينيين والمحتل، ووضعت القاتل والمقتول في درجة واحدة وبعضها لم يجد من شجاعة القول إلا الكلمات التي تسعى لإدانة حركة حماس، والتماهي في استهدافها مع نتنياهو وغالانت، وهي الدول التي خططت ومولت لإفشال الربيع العربي، وعطلت مسارات خروج بعض الأوطان العربية من حضيرة الاستبداد والتخلف والتبعية اللامشروطة للغرب، وهي ذاتها التي دعمت إنقلاب مصر وباركت انقلاب تونس، وحرّضت المليشيات والمرتزقة في ليبيا وهدئت بدمار سورية. ورغم كل ألاعيبها، ظلت وفية لمواقفها التسلطية وعدائها للتحرر وكرامة الشعوب، سواء في فلسطين أو في محيطها، لعلمها بأن انتصار الحرية في أي رقعة عربية سيمتدّ إلى مجال أوسع كزحف الربيع، وأن انتصار الحرية والمقاومة في فلسطين سيؤسس لجغرافيا سياسية جديدة في كل المنطقة. وخلافا للمواقف الرسمية العربية الضعيفة أمام حجم التقتيل إلى حد الإبادة، كانت أصوات الشعوب مدوية وحاسمة ضد الكيان الصهيوني وجرائمه.
ثمن باهظ تدفعه غزة، ولكن هذه الحرب حققت أهدافها منذ اليوم الأول من دخول مقاتلي كتائب عز الدين القسام غلاف القطاع
ثمن باهظ تدفعه غزة، ولكن هذه الحرب حققت أهدافها منذ اليوم الأول من دخول مقاتلي كتائب عز الدين القسام غلاف القطاع، حيث تجلت قدرة المقاومة على تخطي قيود الجغرافيا والعزلة وتسجيل أهداف مؤلمة في مرمى العدو الذي أوهم العالم بأن جيشه لا يُقهر، وفرض أمرا واقعا من الغطرسة والتسلط عقودا إلى درجة خضوع بعض الدول العربية لمعادلاته الإقليمية والقبول بالتطبيع معه، رغم سياساته الاستئصالية المتنامية مع صعود اليمين المتطرّف إلى سدّة الحكم.
لقد أحيت المقاومة بعملية طوفان الأقصى القضية الفلسطينية مجدّدا ووضعتها على طاولات النقاش الدولي بقطع النظر عن زوايا تناولها والتعاطي معها، كما فرضت على المنتظم العربي الرسمي الوقوف أمام الحدث، والإهتمام بالقضية الفلسطينية بوصفها قضية مركزية في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي والإسلامي عموما، وعودتهم إلى نقاش الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته بعد نجاحه، أخيرا، في عقد صفقات وتسويات مع بعض هذه الدول على حساب الفلسطينيين ونضالاتهم الطويلة.
بين دوي الصواريخ المتعاقبة تتعالى أصوات قادة الدول الغربية المجتمعة على خنق غزة ومخيماتها وتشريد الشعب الفلسطيني
بعد طوفان الأقصى، سقطت أقنعة الجميع في مجلس الأمن والأمم المتحدة وجامعة الدول العربية، ووقفت غزّة شامخة وحدها تقاوم أطنانا من القنابل والصواريخ، وأياما من التجويع والتشريد لتخلط أوراق الجميع، وتضع نفسها على رأس لائحة الاهتمام الأممي في وجهة التهميش والصمت، عسى أن يدرك ساسة العروبة المنتهكة وحكّامها في الأثناء أن تأثيرات الحرب في فلسطين ستنعكس على كل المنطقة، سواء بتواصل ثبات المقاومة وانتصارها على القصف ميدانيا واتصاليا، ومن ثم المرور إلى مرحلة التفاوض على الرهائن الذي سيكسر شوكة إسرائيل بين مستوطنيها وفي عيون العالم أو باقتحام قوات الاحتلال القطاع برّيا الذي سيكشف عن سيناريوهات عدّة، أهمها جسارة الفلسطيني في الدفاع عن أرضه، وتكبيد العدو خسائر كبيرة لم يخسرها من قبل، وإمكانية التسبب بالتفريط في حياة جنوده الرهائن لدى فصائل المقاومة التي تمثل ورقة ضغط لديها ونقطة ضعف نتنياهو أمام الرأي العام الإسرائيلي.
ليس للمقاومة ما تخسره في هذه المعركة، خصوصا وأنه، في جميع الأحوال، يكفيها أنها حددت زمانها وحققت بعض الأهداف المطلوبة في مقابل دولة الاحتلال التي إما أن ترضى بهزيمة صغيرة وتداعياتها عليها أو تخوض مغامرة الاجتياح البرّي المحفوفة بمخاطر وهزائم كبرى.