في سرديات تأجيل قمة تونس للفرنكوفونية
اتهم الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الرئيس الأسبق، منصف المرزوقي، بأنه كان وراء إحباط انعقاد القمة الفرنكوفونية في جزيرة جربة التونسية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، مقرراً سحب جوازه الدبلوماسي، ليأمر وزيرة العدل بإحالة المرزوقي على القضاء، محدّداً لها الأسباب والفصل القانوني الذي عليها أن تعتمده من خطاب بثّ على الموقع الرسمي لرئاسة الجمهورية. إثر ذلك، أعلن مكتب الاتصال في المحكمة الابتدائية بتونس، يوم 4 نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، أن قاضي التحقيق أصدر بطاقة جلب في شأن السيد منصف المرزوقي. واعتُبر هذا الإجراء مشيناً، بل يصل إلى درجة فضيحة دولة، مع ما صاحب ذلك من حملات تشويه وتخوين واتهام بأنه أحبط انعقاد قمة الفرنكوفونية، والدفع باتجاه تلفيق اتهامه بالتآمر على أمن الدولة. ولا يزال ما صنعه قيس سعيّد ضد المرزوقي مثار جدل حادّ، يراكم في أغلبه نزوع سعيّد إلى التفرّد بالسلطة وقد أمسك بكل مكوناتها بين يديه، ما زاد الطين بلة في دوائر معارضيه والرافضين إجراءات 25 يوليو/تموز الماضي، والذين اعتبروا الأمر الرئاسي 117 "تكريساً لنظام سلطوي وسعياً إلى الانفراد بالحكم".
وبالعودة إلى السرديات المخاتلة والخفية لتأجيل انعقاد القمة الفرنكوفونية، والتي أنزلها سعيّد في خانة "نظرية المؤامرة"، فإن ما كشفه جدل تأجيل القمة من الحيثيات الخفية وراء التأجيل أو الإلغاء أصلاً، جدل ما زال حاضراً في الفضاء العام ووسائل التواصل، ما جعل رموزاً حقوقية وثقافية وأكاديمية تسهم في هذا الجدل الذي مكّن من التوقف عند المرتكزات الأساسية والحقيقية لتأجيل القمة في مدارات سياسية ولغوية، بعيدة كلّ البعد عما ذهب إليه سعيّد اتهاماً للمرزوقي بتأجيلها.
أصبحت الدولة شبه عاجزة عن توفير رواتب موظفيها للأشهر المقبلة، إضافة إلى غموض الوضع السياسي
وبالعودة إلى وثائق منظمة الفرنكوفونية وأدبيات وزارة الخارجية التونسية يمكن إثبات ما يلي:
بدأت القصة زمنياً بمناسبة الذكرى الخمسين لميلاد المنظمة العلمية للفرنكوفونية، حين تقرّر عقد القمة في تونس سنة 2020، واتخذ القرار في القمة رقم 17 المنعقدة في العام 2018 في ييرفان (أرمينيا)، ولكن ظروف جائحة كورونا دفعت إلى تأجيلها مرتين، قبل أن يتقرر انعقادها في جزيرة جربة جنوب البلاد التونسية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2021.
وقد أثار هذا القرار جدلاً بشأن مدى "معقولية" عقد القمة في الظروف السياسية والاقتصادية والصحية التي تعرفها تونس. وعن حيثيات الضغوط التي تمارسها فرنسا والمنظمة الفرنكوفونية وضغوطها لعدم تأجيلها مرة أخرى، وسد الطريق أمام إمكانية الاعتذار عن إقامتها أصلاً، خصوصاً بعدما تبين أنّ وزارة الخارجية التونسية تحتاج 7.4 ملايين يورو لبدء الأشغال الفعلية لاستقبال القمة، وهو ما يجعل المهمة مستحيلة، في وضعٍ أصبحت الدولة فيه شبه عاجزة عن توفير رواتب موظفيها للأشهر المقبلة، إضافة إلى غموض الوضع السياسي جرّاء الأزمة التي فجّرتها إجراءات رئيس الجمهورية (تجميد البرلمان، إعفاء الحكومة، تعطيل العمل بالدستور، تجميع كل السلطات بيد رئيس الدولة، اتهامات متبادلة بالاستقواء بالأجنبي... علاوة على التطبيع مع خطاب الكراهية وتعطيل الحريات العامة...).
ماذا جنت تونس أصلاً من تعاونها مع المنظمة الفرنكوفونية طوال خمسين سنة؟
أمام هذا الوضع، تقول مصادر عليمة إنّ رئيس الحكومة السابق، هشام المشيشي، اقترح على سعيّد، في شهر يونيو/حزيران الماضي، تأجيل عقد القمة، إلّا أنّ الأخير رفض رفضاً قطعياً المقترح، متعللاً بأنّ خصومه في الداخل والخارج قد يستغلون عدم عقدها لتوسيع معارضيه والسعي إلى تنحيته. وتثبت الوقائع التي سجّلت مداولات انعقاد القمة من عدمها في البرلمان السابق ورئاسة الجمهورية ووزارة الشؤون الخارجية غيابات أساسية، أولها غياب كلي لتناول الكلفة المادية المنوطة بكاهل الميزانية التونسية بخصوص انعقاد القمة على الأرض التونسية، في ظل أزمة اقتصادية خانقة، ووضع مربك للمالية العمومية. وتداول الحديث عن نادي باريس، وإمكانية الذي يمكن أن تدخله تونس، وما ينجر عن ذلك من إفلاس للدولة. يضاف إلى ذلك عدم التوقف الواقعي والعقلاني في ما يمكن أن تجنيه الدولة التونسية على المستويين، المتوسط والبعيد، من احتضان القمة والاكتفاء بشعارات إشهارية حول تحسين صورة البلاد وجلب الاستثمار وإعادة الألق السياحي لتونس ومنتجعاتها.
أما ثالثة الأثافي، وهو أمر يبدو طبيعياً في سياقات الإرباك العام للبلاد، غاب عن الجميع سؤال محوري مهم، مداره ماذا جنت تونس أصلاً من تعاونها مع المنظمة الفرنكوفونية طوال خمسين سنة في مجالات التعليم والصحة والبيئة والفلاحة و... ومقارنتها، مثلاً، بعشرية واحدة (2010 - 2020) قرّرت فيها رواندا الانسلاخ عن هيمنة المنظمة والانخراط في الكومنولث، وقبلها الكاميرون التي انفضت عنها سنة 1998 والتحقت بمنظمة الكومنولث.
المطلوب من رئيس المنظمة العالمية الفرنكوفونية أن يجعل السياسة الخارجية لفرنسا متلائمة مع التحدّيات الحقيقية التي تجابهها اللغة الفرنسية
ثقافياً، كشف قرار استضافة القمة عن غياب تام للنخبة الحاكمة بما أسماها عالم الاجتماع الفرنسي، لويس جان كالفي "حرب اللغات والسياسات اللغوية" في كتاب يحمل العنوان نفسه، صدر خلال العام 2005 (صدرت ترجمته العربية عام 2008). وفيه يبين رهانات السياسات اللسانية وصراعات التنوع اللساني على أرض التنافسات الجيوستراتيجية، وبوادر وعي فرنسي بتراجع اللغة الفرنسية، وضرورة تدخّل الدولة والسياسة لرفد مكانة اللغة حيال مؤشّرات أزمة أمام غزو اللغة الإنكليزية الفضاء العام في العالم، وعبر المنظمات الدولية والمؤسسات العابرة للقارّات ووسائل الاتصال الجماهيري، ليصبح الحديث في فرنسا عن ضرورة وضع تشريعات وسياسات لمقاومة حجم الرهانات، والمطلوب من رئيس المنظمة العالمية الفرنكوفونية أن يجعل السياسة الخارجية لفرنسا متلائمة مع التحدّيات الحقيقية التي تجابهها اللغة الفرنسية، من أجل التصدّي للانحسار المستمر لتأثيرها السياسي والثقافي في العالم. وفي هذا السياق المتوتر، جاء بيان المائة الموجه للرئيس الفرنسي ماكرون، وقد طالبوه "بالتخلي عن استعمال الإنكليزية في الخارج... وفي داخل فرنسا نفسها، لأنّ ذلك يدفع زائرينا إلى هجر لغتنا، لغة تركها أصحابها الأصليون".
وتأسيساً على ما سبق، غياب الوعي العام بهذه السرديات سالفة الذكر، وبغموض الأفق السياسي في ما يتعلق بسؤال الديمقراطية وتجميع مختلف السلطات في يد رجل واحد في أعلى هرم الدولة، وأمام نفق مظلم من الأزمات تعيشه البلاد، كانت هنالك استحالة مشاركة 53 رئيس دولة في قمة فرنكوفونية تعقد على الأرض التونسية التي تلاحق رئيسها تهم الانقلاب على الدستور والسعي المحموم إلى الانفراد بالسلطة.