في تفكيك مقولة المستبدّ العادل
بدعوة كريمة من تلفزيون العربي، شاركتُ في حلقة البرنامج الثقافي المتميز "قراءة ثانية"، ليوم الأربعاء، 12 يناير/ كانون الثاني الحالي، والتي اقترحت عنوانا يتعلق بتفكيك مقولة "المستبد العادل"، والتي شاعت لدى عموم الناس، وأطلقها مفكّرون عرب وغربيون، وصارت تدور على الألسن من غير مراجعة أو محاولة لنقد تلك المقولة وتفكيكها، ومن ثم علينا تبصّر تلك المقولة ونظائرها حتى يمكن وضع الأمور في نصابها وتسكين الفهم الصحيح في إدراك عقول عموم الناس ووجدانهم، وهو أمرٌ أوحى إليّ بأنه من جملة ما يستلزمه بناء علم لدراسة الاستبداد وتفكيك مفاصله، وما يرتبط بذلك من ضرورة تفكيك تلك المقولات الشائعة، إذ يُعد ذلك مدخلا إلى تفكيك الظاهرة الاستبدادية ذاتها في العقل العربي والعقل المسلم على حد سواء.
أشهر من تُنسب إليه تلك المقولة محمد عبده في مقال اتخذ عنوانا "إنما ينهض بالشرق مستبدّ عادل"، وذاع هذا التركيب (المستبد العادل) في مجتمعاتنا الإسلامية والعربية، كما ردّدها بعض المفكّرين في ثقافة الغرب. المهم في هذا الشأن استخدام هذه المقولة مسوّغا لتبرير استبداد المستبدّين في مجتمعاتنا، إلا أن من المهم تأكيد أن هذا التركيب الذي يتعلق بالمستبد العادل بالتسمية، وكذلك تلك الصفة، يعاني من الالتباس الكبير، تمثل ذلك في ثلاثة أمور: الأول، التباس المفهوم على مستوى اللغة، لأنه أحيانا يفسّر الاستبداد دلالة على الظلم. وأحيانا أخرى، يُحمل دلالة على الحزم. وجب رفع هذا الالتباس، وتصحيح حال تمرير الاستبداد تحت عنوان الحزم، خصوصا أن الاستعمال والاستخدام صارا محسوميْن أن الاستبداد هو الفعل الظالم الذي يقوم به المستبد منفردا متفرّدا وفق هواه، فهو حكمٌ بالهوى، كما يقول الكواكبي في "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". الثاني، يتعلق بفجوة السياق، لأن هذه الكلمة أطلقت أيضا داخل الفكر السياسي الغربي، حتى من مفكرين اشتهر عنهم مناداتهم بالحرية، وعند بعضهم لاعتباراتٍ تتعلق بالسياقات الغربية آنذاك، ينشدون حالةً من حالات الوحدة بعد تصاعد الفرقة وقيام الحروب ما بين الإمارات والدول. وكذا ما تعلق بسياقات عربية وإسلامية والحقبة الاستعمارية التي سادتهما في ذلك الوقت. الثالث، تعلق بفجوة الممارسة وتأويلها على نحوٍ يمرّر هذه المقولة، بعد بروز خطابٍ يخلع على بعض الخلفاء الراشدين صفة المستبدّ العادل هذه، ومن ثم لا يمكن التسليم لهؤلاء أن يكيفوا تلك الفترة وتلك القيادات أنها كانت تتمتّع بقدرٍ من الاستبداد والعدل معا. ولا يمكن قبول هذه المعالجة أو إقرارها في ظل الحمولة السلبية لمفهوم الاستبداد، فمن الأهمية بمكان أن تجري عملية مراجعة وتفكيك لمثل هذه الأطروحات، أو تلك الاستشهادات، فبعضهم يتحدّث عن قرار الخليفة الأول أبو بكر الصديق بإنفاذ 11 جيشا في حروب الردّة دفعة واحدة أنه انفرد بالرأي في هذا الأمر، ولكنه في حقيقة الأمر كان حريصا على توضيح قراره بأنه نابع من مسألة أساسية، تتعلق بالمصطلح الحديث المتعلق بـ"الأمن القومي".
المستبد لا يكون عادلا، والعادل لا يمكن أن تحدّثه نفسه بظلم أو بأي سياسات أو استراتيجيات طغيانية
من الضروري التفرقة بينه وبين أهل الاستبداد الذين يسبغون أوصاف الأمن القومي على أمان سلطانهم وسلطتهم، وهو أمر كان لافتا في حينه، حينما تقوم الأمة جميعا بمشاركتهم له في أمر المسلمين، ودفاعهم عن دولتهم وحياضها، فلم تكن غضبة أبي بكر لنفسه، ولكن لأمر دينه وأمته، جامعا بين أمرين مهمين، أولهما أصول المرجعية التي يتبعها، وأصول الشرعية التي تتعلق بالقبول والرضا العام، فقد أنفذ هذه الجيوش برضا كامل للقيام بهذه المهمة في عملية شورية واسعة بمقاييس عصرية، وهو ما يوضح الفرق بينه وبين ممارساتٍ توظف مقولة أمن البلاد في الوقت الراهن في تسويغ الاستبداد.
هناك مستوى ثانٍ من مستويات الممارسة، يتعلق بغطاء الاستبداد بدعوى الإصلاح، فهو لا يصف نفسه بالظلم، ولكنه دائما ما يستخدمه في خطاباته أن الهدف هو القيام بعملية إصلاح كبرى. وهذا كان من فرعون نفسه، وتعبر الآية الكريمة عن ذلك برصدها حال فرعون "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، مدّعيا ألوهية مطلقة "أنا ربكم الأعلى"، إنما كان يريد أن يسوّق نفسه أمام شعبه بخطاب استبدادي مبطن، يواجه به دعوة نبي الله موسى، ومن ثم ما زال هذا الخطاب الفرعوني الزائف مستعملا في عمليات التبرير والتغرير والتزوير.
والمستوى الثالث والأخير للممارسة يتمثل في القبول بمستبدٍّ عادل لفترة انتقالية بسيطة، حتى تتسنّى له إقامة أواصر الدولة وتثبيت أعمدتها، ولكن ذلك كله من أسس تسويغ هذه الفكرة المرفوضة وترويجها، إذ يوظّف المستبد مسألة المرحلة الانتقالية لتكون مستمرّة ودائمة، وهي، في حقيقة الأمر، نوع من أنواع الخطاب المبطن لتسويق الاستبداد وحمايته. مثل هذا الخطاب يستخدم للتغطية على أمور وسياسات ظالمة، فللانتقال أصول وسياسات وأطر لا تبرّر الظلم. وشأن الحزم غير الاستبداد، إنه مواجهة كل فساد بحق، أما الاستبداد فهو محاولة التدثر بخطاب إصلاحي لحماية الفساد وليس لمواجهته.
من الضروري تأكيد أن الاستبداد والقابلية له لا يمتّان بتاتاً لعائلة العدل أو الانتساب له، بل على العكس
وأخيرا، يمكن التأكيد على محاولة تفكيك طبيعة هذه العلاقة من ثلاثة أوجه: الأول، أن المسألة الشورية التي عرفتها الشعوب والمجتمعات الإسلامية والعربية لم تترجم إلى حالة مؤسّسية متكاملة في مجال الممارسة السياسية في أرض الواقع، بما يحفظ هذه القيمة المركزية في المنظومة السياسية والتدبير السياسي. يتعلق الثاني بما يمكن تسميتها ورطة الفقهاء. تمثلت هذه الورطة في وجود حالة التغلب أو إمارة الاستيلاء، الأمر الذي فرض عليهم القول بجواز ذلك باعتباره استثناء، إلا أن هذا الاستثناء تحوّل إلى قاعدة بتعاضد عوامل أخرى عديدة، فتحدّث الماوردي عن التغلب ضرورة مؤقتة، إلا أنه كان يؤكّد دائما على أن الإمامة معبّرة عن مفهوم السلطة عقد مراضاة واختيار. الثالث هو الذي يتعلق بالقابليات للاستبداد في الثقافة العربية والإسلامية، وهو أمر سيكون محط تفكيك مقولاتٍ انتشرت في التراث السياسي العربي الإسلامي.
لا يسعنا إلا تأكيد أن ترويج مثل هذه المقولة اليوم يتراوح بين خطابين؛ الأول خطاب المقهورين الذين يتوقون إلى المخلص أو المنقذ أو ينتظرونه من غير حول أو قوة منهم. أما خطاب المقهورين في التوق إلى المخلص وانتظاره؛ وهذا إنما يشكل وَهْما كبيرا، في الجمع بين صفتين لا تجتمعان بأي حال في الإدراك البصير أو في تغيير يحدد المصير، والثاني خطاب المنافقين الذين يحاولون أن يضفوا على المستبد وسياساته أوصافا ليست له بأي حال، ومن ثم من الضروري التأكيد على أن الاستبداد والقابلية له لا يمتّان بتاتا لعائلة العدل أو الانتساب له، بل على العكس تماما، يحترف الظلم محاولا تمريره في ثوبٍ من الإصلاح مغتصبا مفهوم العدل والرشد، فالمستبد لا يكون عادلا، والعادل لا يمكن أن تحدّثه نفسه بظلم أو بأي سياسات أو استراتيجيات طغيانية، هذا جوهر حالة الوعي بالظاهرة الاستبدادية ومقاومة كل ما يتعلق بها من خطاب أو مقولات؛ أو أفعال وممارسات.