في تذكّر "الإمبراطور الأخير"

27 ديسمبر 2019
+ الخط -
هنا، حيث نجول، بسمة وسامر وأنا، في هذا الفضاء الفسيح، المُثقل بالتاريخ، المكان العتيق الذي عاش فيه أباطرةٌ، وحكموا منه الصين، ناموا في غرفٍ قدّامنا يُكتفى لنا أن ننظر إليها من أبوابٍ قريبة، فترى عيونُنا ما تقدِر أنْ تراه فيها. هنا، صنع الإيطالي، برناردو بيرتولوتشي، مشاهد كثيرةً في فيلمه "الإمبراطور الأخير"، والذي عدّ تحفةً سينمائيةً، واستحقّ تسع جوائز أوسكار في موسم العام 1988، منها أحسن إخراج وأحسن تصوير. يُسمّى المكانُ كله "المدينة المحرّمة"، لأنه لم يكن مسموحا لأحدٍ دخولُه إلا بإذنٍ من الإمبراطور، الحاكم باسم السماء. لم يكن متاحا للشعب أن يعبُر إلى هنا، حيث نحن ثلاثتُنا، الجوّالون في هذه الأصبوحة في وسط بكين (أو بيجين)، كما مئاتٌ من الزائرين والسيّاح. لم تعد المدينة هذه محرّمةً على أحد، ومُسمّاها مدينةٌ مجازي، فهي مُقام الإمبراطور وحاشيتُه وأسرتُه وخدّامُه، مقامُهم الذي من أكثر من ثمانمائة غرفة، في 150 ألف متر مربع، انبنى ما فيها في أربعةَ عشر عاما، واكتمل في العام 1420، ومع الساحة البهيجة فيه، محاطٌ بسور، ترى قربَه نهرا. اللون أرجوانيّ هنا، لكلّ هذه المعالم التي رأتها اليونسكو تراثا ثقافيا عالميا. ولأنه ميسورٌ ما تريد أن تعرف عن كل المكان وتفاصيلِه، وما يشتمل عليه من فنونٍ معمارية، وعن مليون قطعةٍ أثريةٍ فيه (كما قرأت)، فإن ما قد يأتي إلى خواطرِك، وأنت في المكان الذي ظلّ ستة قرونٍ مجلّلا بمهابةٍ وطقوسيةٍ فائضتيْن، أنه صار مبذولا وفُرجَةً، وأيضا أن عدسة برناردو بيرتولوتشي جالَت هنا، أما عيناه فحدّقتا في مكر التاريخ وأقداره وظلاله.
"الإمبراطور الأخير" فيلمٌ عن آخر أباطرة الصين، بويي، الذي خلعته في العام 1912 عن عرشِه ثورةٌ قادها ونظّر لها الطبيب صن يات سن، لمّا كان ذلك الإمبراطور رضيعا في الثالثة من عمره. أجازت له الجمهورية المستجدّة في البلاد البقاء في قسمٍ من "المدينة المحرّمة"، قبل أن تطرده منها، مع حاشيته، وكان في نحو السادسة عشرة. غادر إلى منطقة منشوريا، ثم أقام فيها ما يشبه دولةً، كانت اليابان شديدة الوطأة في وصايتها عليه وعليها، حتى إذا ما اكتملت الحرب العالمية الثانية، وعرفت اليابان هزيمتَها المعلومة، يُقبض على الإمبراطور الذي لاحقته أقدار الفشل والخسران طوال حياته، فيسلّمه الروس إلى الشيوعيين الذين صاروا حاكمين بعد إقامة الجمهورية الشعبية، فيُحبس هذا الشاب في أحد سجونهم تسع سنوات، وبعد إطلاقه في 1959، يعمل بستانيّا، في المدينة المحرّمة وحواليها.
الصورة الأقدر تعبيرا، وكثيرة السعة لجموعٍ من البشر، الأداء الباهر للممثلين بإدارة مخرج ثقيل الكفاءة، اسمه بيرتولوتشي (توفي في 2018)، الموسيقات التصويرية، الحيويّة المشهدية، الإيقاع الحكائي الجذّاب، (الفيلم نسختان، طويلة وأخرى 160 دقيقة)، هذه وغيرُها من أسباب جمال هذا الفيلم الذي منحه مؤرّخو السينما في العالم منزلةً عاليةً بين أفلام السيرة وأفلام التاريخ، وبين ملحميّات السينما الرفيعة والرائقة، منذ شوهدت عروضُه الأولى قبل 32 عاما. وهنا، حيث بسمة وسامر وأنا، توزّعت طواقم بيرتولوتشي، لتجول عيون مشاهدي الفيلم في هذه البيوت والغرف والسرادقات والممرّات، وفي الساحةِ حيث ثلاثتُنا بالضبط، وليُنصتوا إلى إيقاعات زمنٍ انقضى في الصين، البلد الآسيوي المتخم بالأساطير والوثنيّات والطوطميات، والذي دلف بعد إطاحة الإمبراطور، الخائب دائما (أراد الشيوعيون الحاكمون غسل مخّه في السجن؟) إلى انعطافاتٍ حادّة، جاء الفيلم على مقاطع منها، إبّان احتلال اليابان القاسي، وفي الأثناء انتهاء حكم الثوار الذين أنهوا الأزمنة الإمبراطورية، وصولا إلى عهد الشيوعيين الأوائل.
صنع بيرتولوتشي فيلما، ولم يؤرّخ وقائع، غير أنه كان أمينا إلى حدّ كبير. لم يُجامل السلطة لأنها أتاحت له المدينة المحرّمة كما يشاء، فقد أتى "الإمبراطور الأخير" على شيءٍ من فداحة تجبّر هذه السلطة. ما همَّنا أكثرَ من هذا، نحن من شاهدنا الفيلم، أنه مرويّةٌ بصريّةٌ بديعةٌ عن دوران السلطة والنفوذ والجاه، عندما يمكرُ التاريخ بمقادير ومواريث. أما ما همَّنا، نحن الثلاثة الذين كنّا حيث خسر الإمبراطور الصغير بويي عرشَه، أن بيرتولوتشي كان هنا.. قبلنا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.