حزب الله وذلك الدرس النوبي
تفيض في جوانح الواحد منّا مشاعرُ الغيظ الموصولة بالأسى بعد العدوان الإسرائيلي على آلاف اللبنانيين، والذي أخذ هذه المرّة لوناً مبتكراً، تستعرض فيه دولة الإرهاب الموصوف قدراتها الاستخبارية والتقنية، عندما اقترفَت، ببراعة، تفجيراتٍ في أجهزة اتصال لاسلكية بين أيدي عناصر في حزب الله وآخرين في غير مدينة وبلدة وضيعة في البلد المستباح، والمُنهك على غير صعيد. وفي غضون حالنا هذا، ملفّعين بالغضب والحِنق، وبيأسٍ وإحباطٍ باهظيْن، ليس من الواقعي، ولا الأخلاقي بداهةً، أن ينصرف أيٌّ منّا إلى تقريع قيادات حزب الله على اختراقاتٍ أمنيةٍ غير هيّنةٍ مكّنت العدو الصهيوني أن يرتكب جرائم الاغتيال المعلومة في صفوف الحزب، وها هي تمكّنه من "إنجاز" جريمته في استهداف لبنانيين حيثما كانوا، وترويع بلدهم، بلعبٍ مخابراتيٍّ مخطّط، وبتدبيرٍ يوظّف العلم والمعرفة في القتل والتمويت. ويكون من المهمّ، في هذا المقام، أن لا يُغوي أهلَ التعاليق في صحافاتنا وشاشاتنا "التعليمُ" على حزب الله، ومقاتلوه في أتعس ظروف، وبين أنياب الوحش الإسرائيلي في الجنوب اللبناني الملتهب، فيؤنَّب لأنه أقلّ احتراساً، وهو يصارع عدوّاً لا يقيم أدنى اعتبارٍ لأيٍّ من أخلاق الحروب والمنازعات، ودلّت وقائع أزيد من 75 عاماً على انعدام أي سقوفٍ لوحشيّته وصنوف إرهابه وتماديه في إزهاق الأرواح وتدمير الحياة والعمران.
مع كل أسباب الوجاهة لمنطوقٍ كهذا تلحّ عليه هذه السطور، لا يملك الحريص على لبنان واهله غير أن يتوجّه إلى حزب الله بالبديهية المعلومة لدى قيادات الحزب قبل غيرهم، أي الابتكارات الخلاقة التي في وسعها (ما أمكن) أن تربك القدرات التقنية والعلمية، الإجرامية النوع، لدى العدو، المتفوّق بلا حدود في شؤون الحواسيب والاتصالات والتواصل. وإذ ليس في جراب صاحبِ هذه الكلمات ما "ينصح" به الحزبَ المقاتل، على هذا المستوى، فإنه، في الوقت نفسه، يعيد ويزيد في فكرة الابتكار نفسها، وربما يكرّرها إلى حدٍّ مُضجر. ولا يشهرها هنا، وكأنه يشيل "زيراً من بير"، ولا كأنه يفترض في ناس حزب الله جهلاً أو قلّة دراية بما يلزمهم من أساليب الحذر الشديد جداً، من مكر العدو وغدره ومفاجآته الإجرامية، وإنما هو المقام الذي لكلٍّ مثلِه مقال.
روى غير مصدرٍ أرّخَ لحرب أكتوبر 1973 ووثّق لها أن الجيش الإسرائيلي أمكن له، في غضون تحرّك نحو مائة ألف جندي مصري نحو قناة السويس، أن يلتقط شيفرة الاتصالات (ربما ليس تماماً) للجيش المصري، غير أنه لم يستفد من هذا، فقد ابتكر المصريون، احتراساً، أن تكون اللغة النوبية لغة التخاطب بين الجنود والضباط المتحدّثين عبر أجهزة التواصل بينهم، وباستخدام شيفراتٍ محدّدة. وانكتب أن الضباط الإسرائيليين سمعوا أوامر تصدُر بلغة غريبةٍ لم يسمعوا بها من قبل، وفوجئوا واستغربوا من هذا، ولم تكن لديهم أيُّ طريقة لفهم الأوامر التي التقطوها، حيث كانت تُعتبر رموزاً جديدة يستخدمها الجيش المصري. وبذلك، لم يكن في وسع العدو فك شيفرة اللغة النوبية وفهم معاني الأوامر المُرسلة (اللغة النوبية تُنطق ولا تُكتب، على ما يذكر العارفون)، فليس لها أبجدية تيسّر لمن يقع عليها أن "يفكفك" مُرسلاتها. وكتب من كتب إن هذه اللغة غير الموثقة، والمنقولة عن طريق التوارث الشفهي، من أهم أسرار التخطيط للحرب التي كان أداء الجندي المصري فيها بطولياً مشهوداً.
للمستزيد أن يستزيد في شأن ذلك الفصل المثير من حروب الاتصالات والشيفرات، ذلك الابتكار الذي أنجزه الجيش المصري في حربٍ توفّرت على مقدّمات ومآلاتٍ لعبت فيها المخابرات والاستخبارات وظائف شديدة الحساسية. وليس في الوسع، في مختتم هذا الارتجال، غير التأشير إلى ما ورد في مفتتحه، أن ابتكاراً ما يبقى مطلوباً من حزب الله ليتفادى، ما أمكن، كمائن عدوٍّ يواظب على ابتكار صنوف الترويع والتمويت بكل ما بين أيديه الطولى من أدواتٍ، وذلك جيشٌ عربي، أيام كانت الجيوش العربية معنيةً بمقاتلة إسرائيل، أبدع درساً نوبياً فريداً. أما ماذا سيكون هذا الابتكار، فبديهيُّ البديهيات أن لا يعلم عن شيءٍ منه معلقٌ متعجّل، مثل صاحب السطور أعلاه.