جمال سليمان أو الممثل المثقف
ليس ضرورياً أن يكون الممثل، في الدراما والسينما، مثقّفاً، فنجومٌ عربٌ فيهما كثيرون، شُغفنا بهم، يفاجئك ما هم عليه من بؤسٍ في ثقافتهم العامة، وفي عدم الوقوع على مفيدٍ أو ذي قيمةٍ أو نابهٍ في كثيرٍ مما يقولون في مقابلاتٍ معهم، وفي مناسباتٍ يطلّون فيها على الجمهور العام، سيما إذا تعلق ما يُدلون به في شؤونٍ عامّة، وقضايا مجتمعية أو سياسية. والأنسب أن يُحاوَر الممثلون (ليس كلهم طبعاً)، العرب، في برامج المقابلات (والبودكاستات)، عن تجاربهم وسيَرهم وأدائهم هذه الأدوار وتلك، وعن مفارقاتٍ مرّوا فيها، أي بالخصوصي والشخصي، وبآخرين أحياناً، فلا تُطلب منهم آراؤهم في ثوراتٍ وانتفاضاتٍ ورؤساء وحكومات، و...، ليس فقط لأنهم، غالباً، يُؤثرون مهادنة الأنظمة، أو التملّق لها، لحساباتٍ لديهم تُنجيهم من غضب السلطات (والمخابرات) أو زعل مؤسّسات الإنتاج، بل لأنهم، غالباً أيضاً، في سذاجةٍ سياسية، وقلة معرفةٍ بالتاريخ، ونقصان ثقافة، فضلاً عن ميلهم العام إلى مماشاة أصحاب النفوذ والقوة والمال. ولولا ما لولاه، لأوتي هنا على أسماء من مصر وسورية وغيرهما. وفي الأحوال كلها، لا تلغي الاستثناءات المؤكّدة صحّة هذا الزعم هنا.
جاء النجم السوري، جمال سليمان، في "بودكاست هامش جاد" على "العربي تيوب"، على وجود ممثلين ذوي مواهب خارقةٍ غير مثقفين، وصحَّ حديثُه عن ممثلين آخرين اتّصفوا بالثقافة من الحياة والخبرة فيها، وعن غيرهم امتلكوا ثقافةً عاليةً مما قرأوا من كتب، ومما طالعوا وتعلّموا. وعندما تسمع إجابات سليمان، الذي يستحسن النموذج الذي يجمع بين الثقافتين، على أسئلة الزميل جاد غصن في هذا البودكاست تلحظ، بيُسر، أنه مثالٌ على هذا النموذج، ما لا يعودُ فقط إلى دراسته في المعهد العالي للمسرح في دمشق، ثم إكمالها في بريطانيا، بل أيضاً إلى إحاطته الواسعة بتجارب مسرحيةٍ وسينمائيةٍ متقدّمة، وقراءاته في التاريخ والفنون والسياسة، وإلى خبراته الشخصية المنوّعة. وقد أشار إلى قراءاتِه عن صلاح الدين الأيوبي وعبد الرحمن الداخل قبل تأديته شخصيّتيهما في مسلسلين عنهما، باهريْن، من إخراج حاتم علي وسيناريو وحوار وليد سيف. وأن يبقى سليمان على حافظته مما قاله في "صقر قريش"، على لسان عبد الرحمن الداخل، ونسمعُه منه في هذه المقابلة الطويلة، رغم مضي نحو 20 عاماً على إنتاج المسلسل، لا يدلّ فقط على أناقة هذا العمل وجمال بناء شخصياته والحوار فيه، وإنما أيضاً على ذائقةٍ عالية المزاج، وثقافةٍ رفيعةٍ لدى نجمنا الذي نحبّ.
عندما يتحدّث جمال سليمان إلى جاد عن مسار الدراما السورية، وبواكيرها ومنعطفاتها، وعن مسار حضورِها، صناعةً وإنتاجاً، فإنه لا "يدردش"، وإنْ يرتجل، بفصحى مخفّفةٍ مطعّمةٍ بعاميةٍ محبّبة، بل يصل الاقتصادي بالسياسي وبالفني، ولا يعتّم على دوْر صانع القرار في أعلى مستويات السلطة، الذي التفت إلى أهمية صناعة دراما سورية، الأمر الذي تطلّب إحداث تعديلاتٍ في تعليماتٍ وتشريعاتٍ وتوجيهات، من أجل تسهيلات استيراد أدوات التصوير وغيرها من لوازم الشغل، ولإقامة أرضيةٍ مناسبةٍ لتشغيل قدراتٍ في الكتابة والإخراج والتمثيل والمونتاج والتصوير والإدارة. ولم يتزيّد صاحبُنا عندما جاء على "تضحياتٍ" أدّاها ممثلون سوريون في مسيرة النهوض بدراما متقدّمة، فنّياً وإنتاجياً، ولا يتزيّد صاحب هذه الكلمات لو كتَب هنا إن السرد الذي استعرض فيه جمال سليمان، بتلقائيةٍ، سيرورة هذه الدراما، منذ بواكيرها في الستينيات، تصلح تأثيثاً لدرسٍ أكثر تفصيلاً، سيّما أنه لم يغفل مختلف الجوانب بصددها، ومن ذلك أجور الفنانين، من قبيل أن جمال سليمان نفسه، تلقّى في سورية 1300 دولار عن مسلسلٍ أمضى في التصوير فيه ثمانية شهور، ثم يتقاضى، بعد عشر سنوات، عشرة آلاف دولار عن عملٍ آخر في شهورٍ أقل.
لم يكن مفاجئاً أن يختار جمال سليمان ضفّة المعارضة بعد نشوب الثورة في بلاده، وقد اصطفّ في مساحتها العقلانية، إن صحّ التوصيف، كأنه تمثّل قولة مكسيم غوركي إن دور المثقف أن يحتج. ولم يصنع بطل "التغريبة الفلسطينية"، عندما يقيم منذ سنواتٍ في "اغترابٍ إجباري" (بلغته) في مصر، شيئاً سوى أنه يحتجّ على الذي فعلته السلطة الحاكمة في بلده. المفاجئ أنه يُخبرنا في "بودكاست هامش جاد" على "العربي تيوب"، بأنه أنجز سيناريو عمل درامي عن "التغريبة السورية"، وهذا جديدٌ مفرحٌ من ممثلٍ عربيٍّ مثقف، قليلون من قماشته بين ظهرانينا.