في تداعيات انتصار اليمين الأوروبي المُتطرّف جنوباً

13 يونيو 2024
+ الخط -

استفاقت أوروبا على وقع اكتساحٍ كبيرٍ حقّقته جحافل اليمين المُتطرّف في انتخابات البرلمان الأوروبي، وهو أمرٌ كان مُتوقّعاً. ولكن ليس بهذه النّسب في كلّ أوروبا تقريباً، ما يستدعي القيام بتقدير التّداعيات على شمال أفريقيا، لا سيّما في ملفّات شائكة أضحت محور علاقات الضّفّة الشّمالية من المُتوسّط بجنوبه، سواء تعلّق الأمر بالهجرة غير الشّرعية وبالتّهديدات الأمنيّة أو برهانات الشّراكات المُستقطبة.

كانت عمليّات سبر الآراء قد رسمت شكل البرلمان الأوروبي قبل الانتخابات، وجاء الاقتراع ليؤكّد تلك التوجهات، ولكن ما زاد في وتيرة الإرباك بالنّسبة للنُّخبة السّياسية الحاكمة؛ اليسار، وفي بلدان الجنوب، هو ذلك التّوجُّه الكبير الذي أصبح ديدَن الطّبقة السّياسية الأوروبية برمّتها، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فكان الخطاب السائد في وسائل الإعلام وفي النّقاشات السّياسية مُبرِزاً الهوّة التي تعمّقت في المستوى الهويّاتي، الحضاري، والسّياسي/ الأمني، والاستراتيجي، مع استثناء، يجب التّأكيد عليه، من بعض الشُرفاء من تلك الطبقة، وهم قلّة، على غرار "فرنسا الأبية"، القوّة اليسارية الفرنسية، التّي أبت إلّا أن تُغرّد خارج السّرب الأوروبي، وتلتقي في خطابها مع قضايا الضفّة الجنوبية والعالم العربي - الإسلامي، عموماً، وبخاصّة في الملفّ الفلسطيني ومحرقة غزّة.

سبق الانتخابات البرلمانية عرض بعض الملفّات الشائكة في علاقات أوروبا بالضفّة الجنوبية، على غرار ميثاق الهجرة الأوروبي، كما سبق لبعض البلدان الأوروبية اتّخاذ إجراءات صارمة في ملفّات التّأشيرات باعتبارها ملفّاتٍ رادعةً ووازنةً في مفاوضات الحدّ من تلك الهجرة أو إجباراً لبلدان الضفّة الجنوبية في شمال أفريقيا على لعب دور المناول في هذا الملفّ، مقابل التخفيف في ملفّ التأشيرات أو منح بعض القروض للبلدان التي تعاني من ضائقة اقتصادية، مثلاً. ولم تكن تلك الملفّات لتُفتَح لولا إبراز عمليات سبر الآراء لذلك التّوجُّه الكبير في آراء النّاخب الأوروبي وسلوكاته نحو تفضيل مقاربات اليمين واليمين المُتطرّف في معالجة ملفات الأمن والهجرة، على وجه الخصوص، واعتقاد السّياسيين، خاصّة ممّن هم في الحكم، بأنّ فرض جرعات من التّوجُّه اليميني في سياساتهم بالنّسبة لتلك الملفّات كانت لتسمح لهم بترجيح كفّتهم أو تحجيم الخسارة المتوقّعة، وهو ما لم تصل إلى تحقيقه، وعبّرت عنه، بكلّ وضوح، النّتائج في الانتخابات الأوروبية. من كان يتصوّر، مثلاً، بالنّسبة لفرنسا، أن تتصدّر المشهد زعيمة اليمين المُتطرّف مارين لوبان، بحزبها التّجمُّع الوطني، بقرابة ثلاثين نائباً في البرلمان الأوروبي رفقة حزب إيريك زمور، الذي دفع خمسة نوّاب إلى المرجعية التشريعية للاتّحاد الأوروبي، وهو وضع سيشكّل قاعدةً للتّحالفات في التّشريعيات المُبكّرة المُقبلة التّي قرّرها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أعقاب هزيمة حزبه الحاكم في هذه الانتخابات، ما سيُمكّن اليمين من امتلاك فرصة الوصول، أوّل مرّة، إلى رئاسة الوزارة، إذا فاز تحالف اليمين في الانتخابات المقبلة، وربّما، في 2027، إلى قصر الإليزيه، إذا فازت مارين أو فاز الأمين العام للتّجمُّع الوطني جوردان بارديلا، إلى جانبها، برئاسيات فرنسا المُقبلة.

ميثاق الهجرة الأوروبي سيكون بمرجعية أكثرَ تشدّداً مع عدد كبير من نوّاب اليمين واليمين المُتطرّف في البرلمان الأوروبي

كانت هذه التّداعيات المباشرة لتلك الانتخابات، في حين أنّ التّداعيات الأخرى المُنتظرة في ملفّات الهجرة والأمن، إضافة إلى طبيعة الشّراكات وطبيعة العلاقات ومنطق التّعامل مع بعض الملفّات، على غرار الذاكرة، بالنّسبة إلى الجزائر، بل ربّما، أبعد من هذا، التّداعيات في أفق انتخابات الرّئاسة الأميركية في نوفمبر/ تشرين الثّاني المقبل، مع احتمال صعود ترامب الشّعبوي إلى البيت الأبيض. بالنّسبة لملفَي الهجرة والأمن، فإنّ ميثاق الهجرة الأوروبي سيكون بمرجعية أكثر تشدّداً مع عدد كبير من نوّاب اليمين واليمين المُتطرّف في البرلمان الأوروبي، وقد كانت البرامج كلّها مُتمحوِرة حول هذين الملفَّين باعتبارهما الأكثر حضوراً في خطابات المُرشّحين للانتخابات، وباعتبار أنّ كلّ القصور في السّياسات العامّة؛ التّراجع في المكانة الدُّولية لأوروبا، البطالة المرتفعة والأزمات الاقتصادية، هي بسبب وجود المهاجرين، وإذا أُضيف إلى هذا بروز التّوجُّه الهُويّاتي في الخطاب السّياسي لليمين الأوروبي، أي التّركيز على الخطاب الحضاري وتوجيه اللّوم للآخر بسبب انتماءاته الدينية والحضارية، فإنّ التّشريعات التي ستصدُر عن هذا البرلمان لن تكون إلّا مُؤكّدة حقيقةً ظلّ السّياسيون الأوروبيون يخفونها أو يتجاهلونها، وهي تلك المُتّصلة بمُتغيّر الهُويّة، وكيف أنّه أضحى المُحرّك الأساسي أو الوحيد لكلّ السّياسات في إطار تصوّر نظرية الاستبدال الكبير، والأسلمة المتسارعة لأوروبا، والمخاطر الأمنية المتأتّية من رفض التعدُّدية الهُويّاتية، ما سيكون له الأثر السّلبي في العلاقات مع الضفّة الجنوبية المُتأثّرة، أصلاً، بالطبيعة الاستقطابية وتمركز الرؤية إلى المصالح الأوروبية من دون غيرها، ممّا يُمكن التّعبير عنه من الآخرين، من الشُّركاء المفترضين لسياسات الأوروبيين، أي الضفة الجنوبية، شمال أفريقيا بالخصوص.

ما سيتضرّر، من منطلق تغيّر تشكيلة البرلمان الأوروبي، بولوج اليمينيين إلى كراسيه، أساساً، السياسات الأوروبية للجوار المرتكزة على الأمن

بالحديث عن تلك الشّراكات، أي السّياسات المستقطبة والمرتكزة على مصالح الأوروبيين، فإنّ ما سيتضرّر، من منطلق تغيّر تشكيلة البرلمان الأوروبي، بولوج اليمينيين إلى كراسيه، هو، أساساً، السياسات الأوروبية للجوار، المرتكزة على الأمن، إلى جانب ملفّات التّنسيق الاستخباراتي، بل كلّ السّياسات الأمنية التّي كانت تَحدُّ من نشاطات بعض الجماعات الإرهابية، وتمنع من تمدُّد التّهريب والإجرام العابر للحدود بين الضفّتين، لأنّ البرلمان الأوروبي، بتشكيلته اليمينيّة، سيركّز، حتماً، على ملفّات بعينها من دون أخرى، وبرؤيةٍ أكثرَ استقطاباً، خاصّةً إذا تغيّرت الطّبيعة السياسية لبعض الحكومات من خلال الانتخابات المُبكّرة، التّي ستشهدها فرنسا (الأسبوع الأخير من يونيو/ حزيران، بالنّسبة للدّور الأوّل، والأسبوع الأوّل من يوليو/ تمّوز المقبل، للدّور الثّاني)، ثمّ، احتمالاً، بعض الدُّول الأوروبية الأخرى. ثمّة ملفّ خاصّ بالجزائر سيكون موضوعاً للتّداعيات السّلبية، وهو موضوع تصالح الذّاكرة. ذلك أنّ قوّتي اليمين واليمين المتطرّف، خاصّة إذا تحقّق سيناريو التحالف في التّشريعيات القادمة، في فرنسا، ستكونان بمرجعية الرُّؤية الفرنسية المتلاعبة، أصلاً، في الملفّ، ثم بالتّعنُّت في تثبيت رؤى تمجيدية للوجود الاستيطاني الفرنسي (مشروع قانون تمجيد الاستيطان، مقدّم في 2004، وقد تتمّ إعادة إحيائه، كما وعد كلّ من اليمين واليمين المُتطرّف) في الجزائر، وهو ما حاول المسؤول عن ملف الذّاكرة من الجانب الفرنسي، المؤرّخ بنجامين ستورا، فعله عندما توجّه إلى النُخْبَة السّياسية الفرنسية طالباً منها إبداء رأيها في المطالب الجزائرية في مفاوضات تصالح الذّاكرة المُقدّمة، أخيراً، في إطار التئام طرفَي الملفّ في الجزائر.

هذه، ربمّا، التداعيات الأساسية، إجمالاً، والتّي قد تطاول العلاقات الأوروبية مع الضّفّة الجنوبية للمتوسّط، وهي، كما نرى، لن تكون إلا ذات طبيعة سلبية وقد تضيف إلى قتامة الوضع في بعض المستويات (الهجرة والأمن، إضافة إلى وضع الجاليات المهاجرة المغاربية في أوروبا، وفي فرنسا على وجه الخصوص)، وهي فرصة سانحة لبلدان الجنوب، خاصّة الرّئيسية منها، لتوحيد الرُّؤى؛ اقتراح شراكات بديلة وتحضير ردّات فعل تكون ذات طبيعة استراتيجية، ذلك أنّ التّغيُّر في السّياسات الأوروبية لم يكن وليد هذه الانتخابات، بل هو فعل استراتيجي وثابت منذ وقت طويل، إذ لم تتوقّف نداءات الأكاديميين للحذر من تلك السّياسات، وكانت القراءات مُبرزة للاستراتيجيات البديلة، التي ستحول، حتماً، من دون استفحال الوضع أو تحقُّق تنبؤات التّقديرات السّلبية ذات الأثر الكبير في بلداننا، وفي المستويات كافّة.