في تحديد المسؤولية عن التغيّر المناخي
قال الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، في شرم الشيخ: "إمّا التعاون أو الهلاك"... وينسج على منواله أغلبية المتدخلين في القمة الـ27 للتغيّر المناخي. المشكلة ليست هنا، بل في عدم مواجهة جذر الكارثة التي تواجه كائنات الأرض، لا البشر فقط، وتتحدّد بمسؤولية الدول الغنية، ومنها الصين، عنها، رغم أنّ مسؤولية الأخيرة بدأت بشكل موسّع منذ خمسة عقود، والتغير هذا بسبب الانبعاثات الكربونية. وتتصدّر، وفق أحدث التقارير، الصين بـ27%، وأميركا 15% والاتحاد الأوروبي 10%، وبقية الدول الغنية النسب الكبرى، وتليها دول العالم المتخلف. والمعادلة هنا، أنه كلما كانت الدول أكثر تصنيعاً، كانت أكثر تلويثاً للأرض وللبيئة للإنسان. لا تقتصر المسألة على التغيّر المناخي، وارتفاع درجات حرارة الأرض، عن درجة ونصف، وذوبان الجليد، وارتفاع مستوى البحار. لا، القضية في عشر قضايا خطيرة، ويحتاج إيقاف التدهور فيها فعلاً إلى سياسات كبرى، على مستوى سياسات النظام العالمي، وعلى مستوى الاقتصاديات كذلك. القضايا: التغيّر المناخي، والزيادة في حموضة المحيطات، وانقراض الأنواع النباتية والحيوانية، وفقدان التنوّع البيولوجي، وفقدان غطاء الأرض، واختلال دورة النتروجين والفوسفور، وتراجع منسوب المياه العذبة وزيادة التصحّر، والتلوث الكيمائي والنووي، وتآكل طبقة الأوزون وانتشار الأوبئة.
لقد بدأ الاهتمام بنتائج الثورات الصناعية الرأسمالية، والاشتراكية في كل من روسيا والصين بصفة خاصة بعد 1994، أي أن الوعي بالكارثة تأخّر كثيراً. قمّة المناخ الحالية تنعقد والدول الغنية تعود إلى الفحم، وهو من أهم مصادر الانبعاثات الكربونية. والتقارير البيئية تؤكد ضرورة الإقلاع نهائياً عن استخدامه، بينما ألمانيا والهند والصين تعتمد عليه من جديد، وفرنسا عادت إلى استخدام الطاقة النووية في إنتاج الكهرباء، ودول أوروبية كثيرة.
الحديث عن الاقتصاد الأخضر، والاعتماد على طاقة الرياح والشمس والمياه والكهرباء مسائل تتطلب تغييراً كبيراً في البنية التحتية في المصانع، حيث يتطلب الانتقال إليها عدم الاعتماد على الغاز والنفط والفخم، وهذه تنتجها وتسوّقها وتبيعها شركات عولمية، ولها دور مؤثّر في سياسات الدول. وبالطبع، تستند الصناعة إليها بصورة خاصة. وبالتالي، تشير قمم المناخ إلى ضرورة التصدّي للتغيّر المناخي، لا إيقافه، بمعنى أنّ إيقاف التغيّر يتطلب إيقاف اعتماد الاقتصاد العالمي على الطاقة الأحفورية، وهذا غير ممكن قبل منتصف القرن الحالي، وعود محضة، فمتى سيحصل ذلك الانتقال، وهل سيحصل من أصله؟
قمّة المناخ الحالية تنعقد والدول الغنية تعود إلى الفحم، وهو من أهم مصادر الانبعاثات الكربونية
تتعهد كل من أميركا والصين والاتحاد الأوروبي (تهرب إلى الأمام، بإيقاف الانبعاثات الكربونية في 2050 أو 2060، بمعنى أنّها تدفع البشرية إلى الأوهام المحضة). ورغم القيام ببعض المبادرات للتحوّل نحو الطاقة الكهربائية في أنظمة المصانع في العالم، فإن الحرب الروسية على أوكرانيا، وسياسات الاتحاد الأوروبي وأميركا نحوها (العودة إلى الفحم، وامكانية الحرب النووية، ودمار أوكرانيا)، أوضحت أن الدول الغنية ليست مستعدّة بالفعل للإيفاء بحاجات مواجهة التغير المناخي، رغم أنها خصّصت في قمة باريس في 2015 مائة مليار دولار سنوياً (ولم تفِ بمعظمها)، وتُعطى للدول الفقيرة لمواجهة تلك التغيرات، وإيقاف التصحّر وقطع الغابات والتلوث والاعتماد على البيئة كمجالات اقتصادية.
تؤكد تقارير منظمات البيئة العالمية والأمم المتحدة مسؤولية الدول الغنية، فهي لا تعتمد أيّ قرارات إلزامية من أجل مواجهة الكوارث البيئية. والدول التي تقودها أنظمة ليبرالية جديدة أو شعبوية، أو مستبدّة، لا ترى أن هناك مشكلة حقيقية من أصله، وترى في الأمر تضخيماً غير مبرّر، وقد انسحب الرئيس الأميركي السابق، ترامب، من اتفاقية المناخ، ولن يضيف وصول لولا إلى الحكم في البرازيل كثيراً في تلك المواجهة.
الدول التي تقودها أنظمة ليبرالية جديدة أو شعبوية، أو مستبدّة، لا ترى أن هناك مشكلة حقيقية من أصله
تتطلب مواجهة الكارثة البيئية، وكلّ "المجازر" التي أوقعتها الثورات الصناعية العشر، ومنذ أن بدأ النظام الرأسمالي بالتشكّل، إعادة توجيه سياسات الدول الغنية، وإعادة تشكيل الشركات الضخمة على أسسٍ جديدة، وأهمها الاستغناء التدريجي عن الوقود الأحفوري، وهذا يتطلب مواجهاتٍ شعبيةً كبرى في العالم، وحتى هذه اللحظة لم تستطع جماعات البيئة، و"الاقتصاد الأخضر" منع انعقاد القمّة في مصر مثلاً، التي يعتمد نظامها سياساتٍ مناهضةً للبيئة وللفقراء. وتفيد تقارير بأنّ مصر تتجه نحو إعلان الإفلاس، والمليارات الثلاثة التي وافق البنك الدولي على إعطائها إياها أخيراً لن تكفي لسداد فوائد المليارات المائة والخمسين، التي هي ديون على الدولة المصرية، ولأنّها لم توظفها في اقتصاديات منتجة، ووضعتها بقطاعات خدمية، ولمصلحة الطبقة الأكثر غنىً، بينما الأغلبية تتجه نحو المجاعة.
عانت في هذا العام بعض دول أوروبا، ودول كثيرة، من الجفاف، وضربت الفيضانات باكستان، وعانت مناطق كثيرة من مشكلاتٍ إضافية أخرى. ورغم ذلك، رأينا ألمانيا تتجه نحو استخدام الفحم، وروسيا تستخدم الطاقة أداة ابتزاز لأوروبا، وتجبرها على العودة إلى الطاقة النووية والفحم، وأميركا ترفع من أسعار الطاقة المبيعة إلى أوروبا، وطبعاً لم تعتمد هذه الدول مجتمعة على الاقتصاد الأخضر، رغم أن قمم المناخ بدأت في 1994!
الدول الأكثر قوّة وسيطرة على العالم، والدول المستبدّة، وفي مقدمتها مصر، لا تهتم فعلياً بمشكلات الكوكب، وهي، الغنية منها، وحين تتجه إلى استبدال الطاقة الأحفورية بالمصادر البيئية، تنطلق من الحفاظ على مصالح الشركات الكبرى، وليس من مصلحة البشرية قاطبة، بما فيها شعوبها كذلك، فكيف ستتمكّن من إقناع تلك الشركات بضرورة الاستبدال، والعالم المتقدّم يتجه نحو الركود والكساد، بينما يتطلب الانتقال تخصيص مليارات الدولارات.
وعود الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، وإيقاف الانبعاثات الكربونية، يبدأ تحقيقها من الدول التي تسبّبه، أي الصين وأميركا والاتحاد الأوروبي
حينما كانت تنعقد قمم المناخ، كان عشرات الآلاف من الناشطين يتظاهرون من أجل قضايا البيئة. وبدلاً من أن يتجه العالم نحو حل مشكلات البيئة، وإقامة صلات سليمة مع الطبيعة، تتّجه السياسات العالمية نحو مزيد من التدهور في تلك العلاقة، وهذا سيؤدّي إلى حرمان الأجيال القادمة موارد كثيرة، ورؤية أنواع عديدة في البحار أو على اليابسة، من نباتات وحيوانات، وقد ينقرض ملايين البشر بسبب المجاعات والكوارث البيئية.
الأنظمة التي تناقش إمكانية الحرب النووية، تزامناً مع حرب أوكرانيا، ولا تفي بالمستحقّات المرتبة عليها بسبب دورها في الانبعاثات الكربونية وتدمير البيئة، لا يمكن أن تأخذ موضوع المناخ على محمل الجد. هذه القمم من أجل إنتاج أوهام كبرى بأن تلك الأنظمة مهتمة فعلياً بالبيئة، وستخصّص مليارات الدولارات من أجلها، وهي تكرّر هذا التعهد سنوياً، ثم تتملص منه.
البشرية وكوكب الأرض معرضان للفناء، ليس بالسلاح النووي فقط، بل أيضاً باستمرار السياسات ذاتها للدول الأكثر تقدّماً، ولأنّها لا تريد تغييراً شاملاً لمصادر الطاقة. وعود الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر، وإيقاف الانبعاثات الكربونية يبدأ تحقيقها من الدول التي تسبّبه، أي الصين وأميركا والاتحاد الأوروبي، وليس فقط من المعالَجة المتعثرة لنتائج الانبعاثات في الدول الفقيرة، التي تسودُها أنظمة الاستبداد والفساد، وتنهب الأموال وتسرقها بدلاً من توظيفها في منع استمرار تغيّر المناخ والكارثة البيئية، وتشرعن الدول الغنية تلك الأنظمة، كما حال نظام عبد الفتاح السيسي وسواه.