نحو استراتيجيّة للمعارضة السوريّة بشأن التحديات الصّهيونيّة

22 نوفمبر 2024

مظاهرة لدعم غزة في بلدة أطمة في محافظة إدلب، شمال غربي سورية (18/10/2023 الأناضول)

+ الخط -

دخلتِ المنطقة العربية في طورٍ جديدٍ من محاولات الهيمنة التي تقوم بها الدولة الصهيونية. تتعدّد الذرائع: طوفان الأقصى، دعمُ حزب الله حركة حماس، المليشيات التابعة لإيران وقصفها دولة الاحتلال، مثل الحوثيين والمليشيات العراقية والمليشيات التابعة لإيران في سورية. استغلت الدولة الصهيونية هذه الذرائع باسم الدفاع عن النفس ومحاربة الإرهاب والهمجية والبربرية، واعتبرت ذلك مثل "11 سبتمبر" الصهيوني. وتلقت دعماً أميركيّاً وأوروبيّاً واسعاً، وتوكيلاً بفرض الهيمنة ومنع التمدّدين الروسي والصيني، ولا سيما أن لدى الأول موقعٌ متقدمٌ في سورية، وعلاقاتٌ قويةٌ مع إيران، ومحاولةٌ لإقامة علاقات جيدة مع دول الخليج. كما تسعى الصين إلى تعزيز العلاقات مع الخليج وإيران، وضمن ذلك تُقرأ خطورة العلاقات المتينة بين روسيا وتركيا.

النظامُ السوريُّ الميّت

استشعر النظام السوري إمكانية التغيير في المنطقة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ولكنه صمت كالأموات. انتظر عودته إلى الشرعية من خلال "انتصار دولة الاحتلال"، التي فقدها داخليّاً وغربيّاً وعربيّاً، وأصبحت حظوظه نادرة للاستمرار في حكم سورية. لم يكتفِ بالصمت، بل اتخذ خطوات أولية ضد وجود حزب الله وإيران في سورية، مثل مصادرة بعض مستودعات السلاح التابعة للحزب والتضييق عليه، وهي خطوةٌ تُعتبر ضد إيران نفسها، نظراً إلى أن الحزب يُعدُّ "درّة التاج" لديها.

وبالتالي، وبسبب الضغط الصهيوني الكثيف، قد يعلن النظام عن خطواتٍ مستقبليةٍ ضد الوجود الإيراني، ربما بالاتفاق معها، بغرض تخفيف الضغط، ولا سيما أن إيران ذاتها اتجهت نحو محاولة إيقاف الحرب منذ السابع من أكتوبر (2023) ورفضت توسيعها. ولم يتغيّر موقفها هذا رغم الردود المتعدّدة مع دولة الاحتلال، والتي قد تتوسّع إلى حربٍ بين إيران والدّولة الصّهيونيّة، وستكون لها آثارٌ كبيرةٌ على المنطقة وعلى سورية.

أين موقع المعارضة السُّوريّة؟

ما هو موقف المعارضة السُّوريّة مما يجري في المنطقة؟ ... لم يصدر عن المعارضة، الممثلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والمؤسسات المنبثقة عنه، أي موقفٍ واضحٍ، معَ أو ضدِ ما يحدث في غزَّةَ أو لبنان، أو بشأن إمكانية انتقال الحرب إلى سورية أو إيران. تتعدّد الجبهات وتختلف أسباب الحرب فيها، ولكن هناك دولة واحدة تواجه في جميع هذه الساحات، وهي الدّولة الصّهيونيّة. لذا، من الواجب تحديد موقفٍ واضحٍ تجاهها، وكذلك تجاه تلك الساحات، بما فيها اليمن والعراق، بل وكل المنطقة.

منذ السابع من أكتوبر، يتفاعل بشكلٍ مكثفٍ حراكٌ سياسي ودبلوماسي، رغم عدم وجود أثر حقيقي تجاه إيقاف الحرب، حيث استمرّت الإبادة منذ ذلك التاريخ. هناك قطاعاتٌ واسعةٌ من المعارضة السورية وغير المنظّمين تُحمّل تاريخ "طوفان الأقصى" وإسناد حزب الله وإيران كل أسباب الإبادة في غزَّةَ ولبنان. وبالتالي، تُبرئ هذه الجهات، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ساحة الدّولة الصّهيونيّة من دورها دولةً استعمارية إحلاليَّة وعنصرية، تمارس فاشية خالصة ضد غزَّةَ والضفة ولبنان.

لا تتناسب حُروب الإبادة التي تشنها الدَّولة الصّهيونيّة مع "7 أكتوبر" أو حرب الإسناد، بل ترتبط بمحاولة الهيمنة على المنطقة المشار إليها. أما التخطيط لذلك، فهو مرتبط بتوسيع الاتفاقيات الإبراهيميَّة ومشروع الهيمنة.

محاولة الهيمنة التي تتبناها الدَّوْلَةُ الصّهْيُونِيَّة تتم بالتعاون مع عديد من الدول العربيَّة، رغم أن هذه التحالفات تأتي من موقع التبعية، مع تغطيةٍ ماليةٍ واقتصاديةٍ معينةٍ

أدّت الرؤية القاصرة منذ عقودٍ، متوسلةً، كما أيديولوجيا النظام، وربما بأثرٍ منها، إلى التخلي الكامل عن الأفكار القومية، واعتبار القضية المركزية هي سورية وليست فلسطين. وهناك تشابهاتٌ لهذه الرؤية في مختلف الدّول العربيَّة، حيث تحصر هموم الشعوب داخل بلدانها، ويُعمّم مع هذه الرؤية الموقف الذي يدعو إلى السلامِ مع الدّولة الصّهيونيّة.

تعدّدت مشاريع السلام، ورغمَ سعي الدّول العربيَّةِ بكل جهدها نحو السلام، وميل أغلبية القوى السيَّاسيَّة، ولا سيما اللّيبراليَّة، إلى هذا الموقف، فإن الدّولة الصّهيونيّة لم تعترف بالسلام. وبالعموم، تراجعتْ أغلبية القوى السيَّاسيَة العربيَّة عن اتخاذ مواقف راديكاليَّةَ تجاه هذه الدولة.

يتضح خطأ الرؤية المنغلقة تجاه القضايا الداخلية العربيَّة، مثل سُورِيَة ولبنَان ومِصْر، من خلال نقطتين رئيسيتين. أولاً، عندما تأثرت الثورات العربيَّة بعضها ببعض في عام 2011. وثانياً، عندما تدخلت دول خليجية في الشؤون المتعلقة بهذه الثورات والدول. هذا يعني أن هناك قضايا مشتركة تجمع بين الشعوب والدول العربية، وأن الاكتفاء بالتركيز على القضايا الداخلية فقط ليس سليماً، وأن الحديث عن أُمَّة سُورِيَّة أو مِصْرِيَّة أو لُبْنَانِيَّة لا بد أن ترافقه رؤية تتجاوز الحدود، تجمع بين الوطني والقومي، من دون تقديم أحدهما على الآخر، والتضامن الكاملُ خلال الأزمات.

محاولة الهيمنة التي تتبناها الدَّوْلَةُ الصّهْيُونِيَّة تتم بالتعاون مع العديد من الدول العربيَّة، رغم أن هذه التحالفات تأتي من موقع التبعية، مع تغطيةٍ ماليةٍ واقتصاديةٍ معينةٍ. الاستنتاج هنا هو أن رفض الإطارِ القومي في الهويات العربيَّة قد أدى إلى الارتباط بالآخر، نتجَ عن هذا ضعفٌ شديدٌ أمام القوى الإقليمية المؤثرة مثل تُرْكِيَا وإيران. بل ساهم تعزيز الفكرة القُطرية في تقوية حضور هذه الدول الثلاث. في الختام، كانت الرؤية القاصرة أقرب إلى أيديولوجيا الأنظمة، حيث تبنّت تبعية للخارج، ما أدّى إلى تفكك المعارضات وزيادة ضعفها.

لم يؤدّ التوافق بين النظام والمعارضة في سياق "الإخلاص" غير المدروس للوطنيّة السوريّة قبل عام 2011 إلى أي تقدّم في الوعي أو الحريات أو الحقوق للسوريين، ولم ينقذ الثورةَ لاحقاً لتكون وطنية وديمقراطية ومشغولة بالتغيير الديمقراطي المحلي. صحيحٌ أن ممارسات النظام قد قمعت الثورة الشعبية، ولكن ممارسات المعارضة، خصوصاً في الخارج، كالمجلس الوطني و"الائتلاف" بعده، استندت إلى رؤاها القديمة في الوطنية المحلية وتجاهلت القومية، محمّلةً إياها كل مصائب العرب.

للأسف، سادَ منذ السبعينيَّات تعميمٌ نظريٌّ بائسٌ، جاء ردّاً على نكسة 1967، وهو يَفترض الفصل التام بين الوطنية والقومية. وقد استندت مواقف المعارضة السورية تجاه التخلّي عن القومية إلى هذا التوجه، رغم أن الحقيقة تقتضي ضرورة التشابك بين الأمرين من دون الخلط بينهما.

كان ينبغي أن يكون أحد أهداف الثورات العربيَّة، وليس الثورة السورية فقط، استعادة فلسطين وتفكيك الدولة الصهيونية واسترجاع الأراضي المحتلة. وفي هذا السياق، يمكن أن يُطرح النقاش حوّل التدرج في ذلك، وضرورة تعدّد أشكال المقاومة لتحقيق دولة فلسطينيّة، وإقامة علاقات متنوعة مع بقية الدول العربيَّة، بدءاً من السّوق العربيَّة المشتركة، ورفع الضرائب، وإقامة مشاريع صناعيةٍ وزراعيةٍ مترابطةٍ.

كان ينبغي أن يكون أحد أهداف الثورات العربيَّة، وليس الثورة السورية فقط، استعادة فلسطين وتفكيك الدولة الصهيونية واسترجاع الأراضي المحتلة

مع اندلاع حرب الدّولة الصّهيونيَّة على غزّةَ ثم لبنان، صمتت المعارضة السوريَّة. يُلاحظُ هنا سوء فهمٍ جوهري للسياسة بشكلٍ عامٍ، وللعلاقات الإقليمية والدولية كذلك. إن إعلانَ موقف رافض للحرب، بل والمشاركة في التظاهرات المناهضة لها، لا يعني الاشتراك بالعمل العسكري ضد الدّولة الصّهيونيَّة، فهو مجردُ موقفٍ سياسيٍّ، ويتعلق بشأنٍ إنسانيٍّ، وتجاه أيّ حرب إبادة، فكيف في فلسطين، وهي على حدود سورية، وكانت جزءاً منها!

لم تُقدِّم المعارضة السورية نفسها ممثلة للسوريين، ولم تطرح أراءً جادةً حول قضايا المنطقة. إن توهمها بالحصول على القبول من الدول عبر الصمت إزاء الإبادة والجرائم، يوضح رداءة تفكيرها ومحدوديته. في العموم، لقد خسرت ثورة شعبيةً عظيمةً، وتخلّت الدول عنها، وسبب ذلك أنّها لم تتبنَ الثورة وتساهم في حلِّ مشكلاتها، وتوحيد الشعب السوري بكليته، والتعبير عن قضاياه. وبدلاً من ذلك، استجْدت الدعم الدولي، بينما كانت الثورة بحاجة للعمل على حلِّ مشكلاتها لتحقق انتصارها.

الأسوأ تبنّي قطاعات من المعارضة الرؤية الصهيونية تجاه الحرب في غزّةَ ولبنان، أي الوقوف معها، واعتقادهم أن اجتثاث "حماس" وحزب الله سيساعد الشعب السوري في معركته للخلاص من النظام، وأن الدولة الصّهيونيَّة تتبنى السلام، علماً أنّها لم تتبنَ السلام يوماً، وأن ذلك سيُنهي عقوداً من الحروب التي "ابتلينا" بها بسبب الأفكار القومية. وتتعدّد أسبابُ الأوهام التي تَملأ هذه الرؤوس، وبغض النظر عنها، فهي تساهم في تخريب المشتركات الوطنية، وتشويه الثورة، بادعائها الانتماء إليها، وتزيد الشقاق بين السوريين، وتمنح للنظام صكّاً بتمثيله سورية!

وهنا لا يمكننا تجاهل وجود سورييّن مستعدين للقدوم على ظهر دبابات صّهيونيَّة. وهذا، وبعد ما جرى في العراق، بمثابة جهلٍ كاملٍ في فهم السياسة وتوجهات الشعب في الدّولة الوطنية الديمقراطية، وكذلك بموقفهم من الدولة الاستعمارية الانحلالية، وظيفيّتها لصالح الهيمنة الأميركيّة على العالم، وهو ما تدركه الشعوب العربيَّة والسوريّة على هذه النحو.

محاولة الهيمنة ومحاولة إيقافها

لم تتوقف المقاومة في غزّة أو الضفة الغربية أو لبنان، وكذلك في اليمن والعراق، عن إعاقة محاولات الهيمنة، ورغم اختلافنا معها في كلّ رؤاها، وفي علاقتها مع إيران، ورفضنا هذه العلاقة، إلّا أنَّ هذه المقاومة ليس لها غاية توحيدية مع بقية الشعب. المعارك لم تنته، وربما تتوسّع، وإذا كانت أميركا انسحبت أخيراً من العراق، فهل ستتمكّن الدولة الصهيونية من إطالة أمد الحرب إلى سنوات.

يهدف الدعم الأميركي والغربي إلى تمكين الدّولة الصّهيونيّة من فرض هيمنتها على المنطقة. وبالتالي، لا نهاية للحروب ولا نهاية للمقاومات، وستتجدّد الحروب والمقاومات إلى أن تنال الشعوب حقوقها وحرياتها وتستعيد أراضيها؛ سواء في فلسطين أو سورية أو سواها؛ وهذا فعلٌ يتجاوز دور المقاومات الحالية وإمكانياتها، وإن كانت تساهم بقسطها فيه. والمعارضة السوريّة بحاجة إلى تغيير استراتيجيتها، نحو رؤية وطنية للوضع السّوري تمثل تطلعات الشعب السّوري تجاه قضايا المنطقة، والتضامن الكامل مع فلسطين، ووفقاً لما يرتئيه أهلها من مستقبل لقضيتهم، أمّا التضامن ضد الحروب فهذا يجب أن يُتبنى بصورةٍ حاسمةٍ، إذ هذا ما يؤسّس للتضامن المعاكس من الشعوب للقضية السوريّة حالياً وفي المستقبل.

إعلان موقف رافض للحرب، بل والمشاركة في التظاهرات المناهضة لها، لا يعني الاشتراك بالعمل العسكري ضد الدّولة الصّهيونيَّة

ليس الاحتلال الصهيوني واقعاً طبيعيّاً في فلسطين والمنطقة بشكل عام، وإذا كان من مصلحة الأنظمة المأزومة والتابعة التحالف معه، فإن مصلحة الشعوب تتناقض كليّاً مع هذا الاحتلال الاستعماري لفلسطين. إن شرعنَةَ وجود الدولة الصهيونية عبر الاعتراف بها من هيئة الأمم المتحدة لم يلغِ كونها احتلالاً لفلسطين، ولا سيما في أراضي الـ1967، ولا يلغي أيضاً ممارساتها الاحتلالية ضد الفلسطينيين في الـ48، وهذا يؤكّد من جديد حقّ الفلسطينييّن في النضال من أجل استعادة بلادهم، وتفكيك الدّولة الصّهيونيَّة.

بالنسبة للمعارضةِ السوريّة المهزومة والمفكّكة فكرياً على الصعيدين الوطني والقومي، فهي تعاني من فهمٍ قاصرٍ للقضايا الوطنية والعالمية، بل وتتجاهل مأساة وضع العراق، البلد الذي تعرض للاحتلال من أميركا وحلفها، وكانت النتيجة كارثية ولا تزال، رغم ثرواته النفطية الهائلة، وأصبح محتلاً من إيران، وسهلت لها أميركا ذلك. إضافة إلى ذلك، ضمّت الدّولة الصّهيونيّة الجولان، وأعلنت أنها لن تعيده إلى سورية، بل إنها تخطّط لضم مناطق جديدة لضمان أمنها. تشير المعطيات المتعلقة باحتلال العراق وفلسطين والجولان بوضوحٍ إلى خطر توسّع الاحتلال نحو لبنان أو سورية في المستقبل، إذا ما استمرّ الوضع على ما هو عليه.

استراتيجية جديدة

تحديد استراتيجية جديدة للمعارضة السورية، وللشعب السوري، بما يخصّ الوضع السوري، الراهن والمستقبلي، وكذلك تجاه فلسطين والعلاقات مع العالم، بدءاً بالعرب وتركيا وإيران وصولاً إلى الدولة الصهيونية يُعدّ في غاية الضرورة. وتعمل حكومة نتنياهو على الهيمنة على الشرق الأوسط، بينما تتحرّك تركيا وإيران وبعض الدول العربيّة لتحديد سياساتها إزاء مشروع هذه الحكومة. في ظلّ هذا، تجد سورية نفسها، نظاماً ومعارضة وشعباً، غائبةً عن المشهد، وسيؤدّي هذا الغياب، وبغض النظر عما ستحقّقه حكومة الاحتلال، إلى أن تصبح خاضعةً وتابعةً وفاقدةً استقلاليتها أكثر من أي وقتٍ مضى.

بالتالي، لمنع تشكلِ شرقٍ جديد على حساب السورييّن والعرب، على السورييّن أوّلاً والعرب ثانياً أن يمتلكوا مبادرةً شاملة تجاه ما ذُكر. وفي غياب هذه المبادرة، ستبقى الشعوب الأكثر تضرّراً، كما هو حال أهل غزّة والضفة الغربية ولبنان، هي المعنية بصياغة رؤية واضحة لعلاقاتها المستقبلية.

أولاً، إن سورية جزء من العالم العربي، وما يحدث في فلسطين ولبنان أو في أيِّ بلدٍ عربيٍّ، سيؤثرُ عليها بالضرورة، لذا فإن التضامن مع الشعوب العربية هو أساس الموقف، وهذا يفترض نقد الأنظمة المأزومة أو الحركات المقاومة للاحتلال الصهيوني حينما تتناقض مصالحها مع الشعوب أو تشارك في قمعها، كما فعل حزب الله في سورية، وساهم بحماية نظام دمشق، الذي صمت عن مقتلة هذا الحزب ولبنان في الأسابيع الأخيرة.

ثانياً، إعلاء المسألة الوطنية لا يعني التخلي عن العروبة باعتبارها رابطة بين الشعوب العربيَّة. تعتبر هذه الرابطة أساساً للعلاقة بين أفراد الشعب في البلد الواحد، ومن دون التفريط بحقوق القوميات أو الأقليات القومية، وإن اختيار النظام الديمقراطي صيغةً نهائية للحكم يساعد في إرساء أساس متين للمسألة الوطنية والعلاقة مع العالم العربي.

اختيار النظام الديمقراطي صيغةً نهائية للحكم يساعد في إرساء أساس متين للمسألة الوطنية والعلاقة مع العالم العربي

لا يتساوى الرابط بين الشعوب مع مفهوم المواطنة أو حتى الأديان والطوائف والمذاهب، أو الأيديولوجيات المختلفة؛ العروبة تتجسد في اللغة والثقافة والتاريخ والتراث، وهي الأساس في بناء المستقبل. تتعلق مفاهيم المواطنة بالشق الدستوري، بينما العلاقات بين أفراد الشعب أو الشعوب العربية تتسم بالتعقيد والارتباط، وتستجيب للتحديات الإقليمية والدولية.

علاوةً على ذلك، تفترض علاقات القوّة بين الدول وجود هذه العروبة، حيث تترابط الدول العربية بشكلٍ معقدٍ. فمثلاً، قوّة تركيا أو إيران تنبع من وحدة دولتيهما، بينما تعتمد قوة الدولة الصهيونية على علاقاتها المتينة مع العالم الإمبريالي. والعكس صحيح أيضًا؛ حيث يعكس تفكّك الدول العربية عدم قدرتها على الاستفادة من هذه الروابط.

وثالثاً، يَفرض الوضع المعقد للسوريين على كافة قوى الأمر الواقع الاعتراف بعضها ببعض، والعمل نحو تحقيق سورية موحدة من جديد. وفي غياب القدرة على ذلك، وبسبب تبعية هذه القوى لدولة أو أخرى ورغبتها في المحافظة على مصالحها، يصبح التوحد تهديداً لتلك المصالح. لذا، يقع على عاتق السوريين، الموزعين تحت سلطات الأمر الواقع، العمل من أجل الاتحاد سياسياً ورؤية السوريين شعباً واحداً، وهذا هو الأمر الأوّل.

تبنّي المعارضات السوريّة مثل هذه الرؤى وصياغة برامجها وسياساتها بناءً عليها أمرٌ ممكن، فهذه أفكارٌ أوّليّةٌ لإعادة إنتاج قوى سياسية وخلق سياسة واقعية واستراتيجية تسير بسورية نحو دولةٍ وطنيّة وديمقراطيّة مرتبطة بعمقها العربي.

يمكن، ضمن التحليل السابق، التفكير في إمكانية تحقيق "السلام مع الدّولة الصّهيونيّة"، ولكن دون ذلك، ستتعزّز فرصُ تشكيل شرقٍ أوسطَ جديد تحت هيمنة هذه الدولة، وهو ما سيكلف العرب والأتراك والإيرانيين خسائرَ فادحة. لذا، فإن هناك حاجة لرؤى جديدة في المنطقة، تتجاوز الفجوات القائمة وتدعم التعاون والتضامن بين الشعوب العربيّة.