في تأثّر باكستان بالتطبيع العربي الإسرائيلي
تدرك إسرائيل جيدا عظم المكانة الاستراتيجية التي تحظى بها باكستان؛ فهي الدولة الإسلامية الوحيدة التي تمتلك سلاحا نوويا، وكثيرا ما عبّر الإسرائيليون عن خشيتهم من نقل الباكستانيين التكنولوجيا النووية إلى دول عربية وإسلامية. أضف إلى ذلك أن موقع باكستان في وسط آسيا، وبجوار إيران والهند وأفغانستان والصين، وبحر العرب من الجنوب، يعطيها أهمية استراتيجية كبيرة لإسرائيل، وما يزيد هذه الأهمية العلاقات الجيدة بين باكستان وإيران، علاوة على تحالفها القوي في الوقت نفسه مع الولايات المتحدة، وهذا كله يجعل باكستان ساحة استخبارية واسعة، ومهمة للغاية لإسرائيل. يعكس هذا الاهتمام تركيز الصحافة الإسرائيلية على الملفّ الباكستاني، كما تكشفه الدراسات الاستراتيجية بشأن منطقة وسط آسيا، وجديدها أخيرا الدراسة التي نشرها معهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي، ضمن العدد 26/1 من دورية "التقدير الاستراتيجي" الصادر في مارس/ آذار الماضي، للباحث الإسرائيلي، عيدو جادي راز، المتخصّص في الشأن الباكستاني والأفغاني، عن توقّعات تطوّر العلاقات الإسرائيلية الباكستانية، وركّزت على الفرص والمعوّقات التي يمكن أن تؤثر إيجابا أو سلبا على التطبيع مع باكستان.
من الناحية التاريخية، يمكن القول إن مواقف باكستان كانت دائما في صف الحقّ العربي، منذ بداية الصراع مع إسرائيل. وكان هذا الموقف التاريخي نابعا، في أحد أبعاده، من تزامن نسبي في تاريخ الصراعين، الهندي الباكستاني، والعربي الإسرائيلي اللذين نشآ في أعقاب قرارين صدرا في العام نفسه 1947 بتقسيم شبه الجزيرة الهندية، وفلسطين، واللذين نشبت عنهما حربان إحداهما بين باكستان والهند، وامتدت حتى يوليو/ تموز 1949، والأخرى في فلسطين عام 1948، ويقال إن باكستان أمدّت العرب في هذه الحرب بـ 250 ألف بندقية اشترتها من تشيكوسلوفاكيا، وثلاث طائرات كانت قد اشترتها من إيطاليا.. وكان ذلك نابعا من رؤية باكستانية تربط بين القرارين المشار إليهما بأنهما يجسدان صراع الدول الإسلامية من أجل الاستقلال.
استمرت باكستان رغم محاولات التقرّب الإسرائيلية المبكرة والمستمرّة، على موقفها؛ فوقفت طوال الوقت في صف العرب في حروبهم ضد إسرائيل
واستمرت باكستان في عقود تالية، رغم محاولات التقرّب الإسرائيلية المبكرة والمستمرّة، على موقفها؛ فوقفت طوال الوقت في صف العرب في حروبهم ضد إسرائيل، وأيدوا الفلسطينيين في انتفاضتهم الأولى 1987. لكن ومع تسعينيات القرن الماضي بدأت تظهر علامات التقارب المحدود؛ فالتقى رئيس الوزراء إسحاق رابين بسفير باكستان في الأمم المتحدة (مارس/ آذار 1993) وتباحثا عن العلاقات بين البلدين، واستمرّت اللقاءات الرسمية وغير الرسمية، ووصلت إلى ذروتها في عهد برويز مشرّف بلقاءات بين وزيري الخارجية، غير أن ذلك كله لم يثمر عن اتفاق على التطبيع. ويرى الإسرائيليون أن أحد أسباب ذلك وجود قوى دينية ذات تأثير كبير في باكستان، ولا يمكن إهمال تأثيرها عند التفكير في العلاقة مع إسرائيل.
ورغم هذا التقارب المحدود استمرّت القيادة الباكستانية في انتقادها الاعتداءات الإسرائيلية بأقوى العبارات؛ فانتقد رئيس الوزراء شهباز شريف عمليات "بزوغ الفجر" (2022) التي شنّها الجيش الإسرائيلي في عهد حكومة لبيد/ بينيت على قطاع غزّة، ووصفها بـ "الإرهابية التي تقتل الأبرياء"، كما اعتبر شريف، في أثناء معركة "حارس الأسوار" ضد قطاع غزّة (2021)، ولم يكن قد تولّى رئاسة الوزراء بعد، أن نتنياهو هو "أدولف هتلر الجديد"، وذلك في أثناء معركة "حارس الأسوار" ضد قطاع غزّة في 2021. بل كان الجيش الباكستاني نفسه قد أعلن، في أعقاب توقيع اتفاق أبراهام، بأنه لا يعترف بإسرائيل، ولطالما أعلنت باكستان أنها لن تعترف بإسرائيل إذا لم تُحلّ القضية الفلسطينية.
توقيع اتفاق أبراهام بين دول خليجية وإسرائيل جعل موضوع العلاقات بين باكستان وإسرائيل مطروحاً للنقاش
ولكن توقيع اتفاق أبراهام بين دول خليجية وإسرائيل في سبتمبر/ أيلول 2020 جعل موضوع العلاقات بين باكستان وإسرائيل مطروحا للنقاش هناك، ليس على المستوى السياسي، ولكن على مستوى الصحافة ووسائل الإعلام. وثمّة حوار باكستاني داخلي آخذ في التصاعد في أعقاب التطبيع الذي قامت به دول "سنّية"، وأصبح بعض الصحفيين هناك يتحدّثون عن إقامة علاقات مع إسرائيل، ويسرّبون أخبار زياراتٍ لوفود باكستانية غير رسمية إلى إسرائيل؛ مثل زيارة عدد من الأميركيين من أصول باكستانية في مايو/ أيار 2022، وترحيب الرئيس الإسرائيلي هيرتسوغ بهم، ثم في سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، أدّى وفد باكستاني آخر، ضم هذه المرّة وزيرا باكستانيا سابقا في حكومة برويز مشرف، زيارة سرية لإسرائيل والتقى بالرئيس الإسرائيلي، حسب إشارة "جيروزاليم بوست"، التي تحدثت أيضا عن طرد الإعلامي الباكستاني أحمد قريشي من عمله بعد علم المؤسسة التي يعمل فيها هناك بزيارته إسرائيل. ورغم أن أكثر التعليقات الباكستانية على زيارة الوفدين كانت سلبية، تحدّث بعضها إن التطبيع مع إسرائيل يتماشى مع مصلحة باكستان الاقتصادية؛ خصوصا أن إسرائيل متقدّمة في مجال الصناعة والتكنولوجيا.
يرصد الإسرائيليون التحوّلات الحاصلة لدى الكتاب والشخصيات المؤثرة في باكستان، وكيف أنها تنامت عقب اتفاق أبراهام، وكيف ازدادت كذلك نقاشات الأكاديميين الباكستانيين حول العلاقات مع إسرائيل وجدواها ومعوقاتها.
توقيع اتفاق أبراهام سيشكل عامل ضغط كبير على باكستان أن تتصرّف بشكل متوافق مع ما يقوم به المعسكر السنّي البراغماتي
ثمة متناقضاتٌ تعقد مشهد العلاقات الباكستانية الإسرائيلية؛ فمن جانبٍ لا يمكن إغفال تأثير قوة العلاقات بين إسرائيل والهند، العدو التاريخي الأكبر لباكستان، وما بينهما من تعاونٍ عسكري في مجال الأمن الإلكتروني، وهو تعاونٌ يزعج إسلام آباد. ويزعم الباكستانيون أن الهند تمكّنت بفضل تكنولوجيا بيغاسوس الإسرائيلية من التجسس على محادثات لرئيس الوزراء السابق عمران خان، وعلى أهداف باكستانية أخرى، فضلا عن أن الهند أكبر مشتر للسلاح الإسرائيلي، وتشترك مع إسرائيل في تطوير تكنولوجيا التصنيع العسكري، علاوة على ارتفاع تصدير السلاح الإسرائيلي إلى الهند في الأعوام 2015 – 2019 بنسبة 175%... هذا غير مجالات تعاون أخرى بينهما. وفي سياق التعقيد نفسه، يجب أن يوضع في الاعتبار أيضا تميّز العلاقات الباكستانية الإيرانية؛ فإيران من الدول التي تساعد باكستان في صراعها مع الهند على جامو وكشمير، وفي الوقت نفسه، يمثل الشيعة نسبة ما بين 10% - 15% من إجمالي سكان باكستان (250 مليونا تقريبا)، وهي نسبة كبيرة يمكن أن تستغلها إيران ضد أي تطبيع محتمل للعلاقات الباكستانية الإسرائيلية.
على الجانب الآخر هناك عوامل تدفع نحو التفكير في الأمر وأخذ الخطوات الأولى، وتقليل الانتقادات الباكستانية لإسرائيل. وهنا يجب أن ننتبه إلى حجم التأثير الهائل الذي تملكه السعودية على باكستان؛ فالأخيرة تبقى مرتبطة ارتباطا قويا بالسعودية، خصوصا على المستوى الاقتصادي، في ظل أوضاع صعبة للغاية تمر بها إسلام آباد، ما يصعّب عليها، حسب الرؤية الإسرائيلية، أن تأخذ خطواتٍ غير مسبوقة في سياستها من دون العودة إليها. وتوقيع اتفاق أبراهام، الذي لم يتم إلا بضوء أخضر سعودي، وما يتصدّر الإعلام حاليا عن المباحثات المتقدّمة في التوصل لتطبيع علاقات كاملة بين السعودية وإسرائيل، جديدها أخيرا على لسان ولي العهد السعودي نفسه، محمد بن سلمان، سيشكل عامل ضغط كبير على باكستان أن تتصرّف بشكل متوافق مع ما يقوم به المعسكر السنّي البراغماتي الذي تقوده السعودية. وبالتالي، ربما تجد باكستان نفسها مضطرّة لأن تمارس قدرا من المرونة في مواقفها في ما يخصّ إسرائيل.
العلاقات الأميركية الباكستانية القوية يمكن أن تؤدّي، بشكل أو بآخر، إلى دفع التعاون بين إسلام آباد وتل أبيب
وكان كاتبان باكستانيان، هما زاهد شهاب أحمد وكورام عبّاس، قد زعما في بحث نشر في "ميدل إيست بوليسي" صيف 2021 أن باكستان تتعرّض لضغوط متزايدة من حلفائها المقرّبين في الخليج للاعتراف بإسرائيل. وعلاوة على ذلك، مؤكّد أن العلاقات الأميركية الباكستانية القوية يمكن أن تؤدّي، بشكل أو بآخر، إلى دفع التعاون بين إسلام آباد وتل أبيب، سواء في عقد مزيد من اللقاءات السرّية، أو بالاشتراك في المناورات العسكرية مثلما حدث في يونيو/ حزيران 2021 حين شاركت قوات باكستانية وإسرائيلية في مناورات عسكرية في البحر الأسود بقيادة الولايات المتحدة، وحلف الناتو، ومشاركة دول أخرى، بعضها عربية، حسب ما ذكر الصحافي الباكستاني، أحمد قريشي، في مقالٍ مترجم له على موقع إسرائيل هايوم في 2021.
سيجعل هذا الوضع المعقّد، وكذا هذه المتناقضات، باكستان لا تفكّر على المدى القريب في إقامة علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، لأنها تدرك، طبقا لشهاب أحمد وكورام عباس، أن خسائرها ستكون أكبر بكثير من مكاسبها في حال غيّرت موقفها التاريخي الرافض الاعتراف بإسرائيل. ولهذا، سيكون تطور العلاقات في هذه المرحلة على مستوى الاتصالات السرّية التي توصي مراكز الأبحاث الإسرائيلية بتكثيفها، فيما يخدم المصالح الاستراتيجية المشتركة بين البلدين. أما على المدى البعيد فيتوقع عيدو راز أن التطبيع السعودي الإسرائيلي المنتظر، إضافة إلى النقاشات الفكرية والإعلامية في باكستان، سوف يؤدّيان مستقبلا إلى تقارب دبلوماسي بينهما. ومن المؤسف أن خطورة التطبيع المتوالي بين العرب وإسرائيل تنعكس بشكل كبير على دول العالم الإسلامي؛ فدائما ما كانت دول المركز في قلب الصراع، وتشارك فيه بالتضحيات بنسب متفاوتة حسب المكانة التاريخية، والجغرافية، وعمق العلاقة التاريخية للشعوب بالقضية الفلسطينية، فإذا كانت دول المركز تختار اليوم التطبيع مع إسرائيل، فإن السؤال المنطقي الذي يجب طرحه: كيف يمكن أن تكون مواقف دول الأطراف؟