في العودة الإيطالية إلى القرن الأفريقي
شهدت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا قمة جمعت قادة الصومال وإيطاليا وإثيوبيا على هامش زيارة رئيسة وزراء إيطاليا جورجيا ميلوني إلى القرن الأفريقي في 15 من الشهر الماضي (إبريل/ نيسان)، وبحثت ملفات تشمل الاقتصاد والتجارة عقب زيارتين أدّاهما الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود ورئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد إلى إيطاليا قبل أشهر.
وتتميز السياسة الخارجية الإيطالية لحكومة جورجيا ميلوني الحالية بالاستمرارية لسياسات سلفها ماريو دراجي، في دعم علاقات وثيقة بين ضفتي الأطلسي والتكامل الأوروبي، وتعزيز الاستقرار في حوض البحر الأبيض المتوسط الذي يضم مناطق الشرق الأوسط والخليج العربي والقرن الأفريقي والساحل في آن واحد، حسبما نصت وثيقة السياسات الاستراتيجية التي أعلن عنها دراجي لعام 2020.
ويعود الحضور الإيطالي في القرن الأفريقي إلى الحقبة الاستعمارية؛ فقد استعمرت إيطاليا ثلاث دول أفريقية هي إريتريا وإثيوبيا والصومال. لكنَّ روما لم تُظهِر على مدى عقود اهتماماً دبلوماسياً أو اقتصادياً محدّداً في القرن الأفريقي بعد هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية وحصول الدول الأفريقية على الاستقلال. إلا أنه سرعان ما أصبح عنوان الحروب الأهلية مبرّراً للتدخلات التقليدية والجديدة من القوى الغربية، بما في ذلك إيطاليا، في القرن الأفريقي أوائل التسعينيات. وقد اقترح محلّلون دوليون إعادة نظام الوصاية الدولية في الصومال. كتب روبرت إي. روتبرج، الرئيس السابق لمؤسسة السلام العالمي، والذي ترأس في ما بعد هيئة التدريس في كلية كينيدي في هارفارد: "ليس لدى الأمم المتحدة الآن خيار آخر سوى حكم الصومال حتى تتمكّن من حكم نفسها". وهكذا، انخرطت قوات إيطالية في بعثة التدخل الدولي في الصومال عام 1993، ولاحقاً شاركت قوات إيطالية في صفوف القوات الدولية لمراقبة القراصنة على سواحل المحيط الهندي.
ويمكن قراءة تنامى الحضور الإيطالي المتجدّد في القرن الأفريقي من رغبة روما بتعزيز مكانتها في القارّة الأفريقية التي تشهد منافسة قوية بين القوى الدولية الكبرى، خصوصا روسيا والصين، كما أنها تشترك مع الدول الأوروبية في مخاوف تدفق اللاجئين، حيث تسبّب استمرار النزاعات المسلحة مدة طويلة في الصومال والسودان وإثيوبيا وإريتريا في فرار نحو ثلاثة ملايين شخص من المهاجرين وطالبي اللجوء، إضافة إلى 12 مليون نازح. ونظراً إلى أن إيطاليا ممرّ للمهاجرين الذين يرغبون في الوصول إلى أوروبا، تسعى روما إلى التعاون مع دول القرن الأفريقي لإدارة تدفّق المهاجرين، من "خلال تعزيز الاستقرار المؤسسي في هذه الدول وزيادة قدرتها على فرض سيطرتها داخل أراضيها"، حسب البيان الختامي المشترك للقمة.
تسعى إثيوبيا إلى الحصول على استثمارات من إيطاليا وتلميع صورتها داخل الاتحاد الأوروبي بعد التحدّيات الاقتصادية الهائلة التي نتجت عن أزمة إقليم تيغراي
ومن جهة أخرى، تحمل زيارة ميلوني أبعاداً اقتصادية، فالمصالح الإيطالية في القرن الأفريقي تمتد في جهود تأمين خط التجارة الدولي عند مضيق باب المندب، الذي يُشَكِّل نقطة العبور إلى البحر الأحمر وقناة السويس، وهو مضيقٌ استراتيجي لنقل النفط إلى آسيا وأوروبا، خصوصا بعد أن أصبحت إيطاليا ثاني أكبر دولة مُصَنِّعَةٍ في أوروبا، ورغبة روما بتوسيع الأسواق الاستهلاكية للسلع الإيطالية.
وللشركات الإيطالية موقع رائد في أسواق القرن الأفريقي، إذ تعد "ويبيلد" من بين الشركات الرائدة في مجال الهندسة الهيدروليكية، وفي إنشاء سدين رئيسين في إثيوبيا، "جلجل جايب الثالث" الذي يعد أكبر سد في أفريقيا على نهر أمو، وسد النهضة على نهر النيل الأزرق. كما تعمل شركة "إينيل جرين باور" الإيطالية في مجال الطاقة المتجدّدة على إقامة محطّات للطاقة الشمسية وطاقة الرياح في إثيوبيا، كما تهتم شركة إيني الإيطالية بالحقول الجديدة للنفط والغاز المكتشفة في إريتريا والصومال. وركزت الوعود الاستثمارية التي أطلقتها ميلوني في زيارتها على البنية التحتية الاقتصادية، مثل تشييد الطرق الكبرى والموانئ وقطاعات الطاقة والزراعة وتربية المواشي ومجالات أخرى. وقد أعلنت عن نيّتها تقديم خطة تدعى Mattei لأفريقيا في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، وتهدف إلى جعل إيطاليا مركزاً للطاقة في خطة سمّيت على اسم مؤسّس شركة إيني (Ente Nazionale Idrocarburi). وتعمل على سلسلة مبادرات متعلقة بأفريقيا، وستكون القمة الحكومية الدولية المقبلة بين إيطاليا وأفريقيا، والتي تُعقد كل عامين. وتحدثت ميلوني عن الخطة باعتبارها "نموذجاً للتعاون والنمو" بين الاتحاد الأوروبي والدول الأفريقية، بهدف تعزيز الاستقرار الاجتماعي، ودعم التنمية الاقتصادية من خلال الاستثمار في القطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة. وأعلنت أن الأهداف ذات الأولوية لحكومتها، ذات شقين: أن تصبح مركزاً للطاقة في أوروبا، من خلال العمل كمنصة في البحر الأبيض المتوسط للتخلص من المواد الخام، والحد من تدفقات الهجرة.
لا تخفي روما خشيتها من أن تستخدم روسيا القوة الخشنة للحصول على نفوذ في أفريقيا وسد الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة وفرنسا
في المقابل، تسعى إثيوبيا إلى الحصول على استثمارات من إيطاليا وتلميع صورتها داخل الاتحاد الأوروبي بعد التحدّيات الاقتصادية الهائلة التي نتجت عن أزمة إقليم تيغراي. كما يتمتع الصومال بقطاعاتٍ جاذبةٍ للاستثمارات، أبرزها الزراعة، وتربية المواشي، وإنشاء المطارات والموانئ، والاقتصاد الأزرق وقطاع التكنولوجيا والاتصالات. ويستعد اقتصاد الصومال لتدشين صفحة جديدة من خلال جذب الاستثمارات الأجنبية في مختلف القطاعات. وقد لفت الرئيس الصومالي في كلمته إلى ضرورة توجيه الاستثمار الإيطالي نحو مشاريع بناء الصمود والتكيف أمام الصدمات المناخية.
خلاصة الأمر، تأتي العودة الإيطالية إلى القرن الأفريقي في سياق التدافع الدولي على المنطقة بشكل أساسي؛ حيث لا تخفي روما خشيتها من أن تستخدم روسيا القوة الخشنة للحصول على نفوذ في أفريقيا وسد الفراغ الذي تركته الولايات المتحدة وفرنسا في تدريب قوات الأمن في الدول الهشّة. وعبر عن ذلك قول وزير خارجيتها أنتونيو تاجاني إن روسيا والصين "تنظران إلى أفريقيا قارّة يجب احتلالها، بينما ننظر إليها على أنها قارّة صديقة". ومن جهة أخرى، تشارك روما قلق الدول الأوروبية الأخرى من تدفق اللاجئين من القرن الأفريقي، خصوصا في أعقاب الحرب الإثيوبية، وتفجّر الحرب الجديدة في السودان.