في الشخصية السياسية لرياض التّرك

10 يناير 2024
+ الخط -

يستحقّ التاريخ النضالي للراحل رياض الترك أن يُذكر، وأن يُشار إلى محطّاته، وإلى ثبات الرجل في مواجهة الاستبداد السياسي قبل نظام الأسد الأب وفي ظله وامتداده مع الابن الوريث. وللحقّ لم يكن تاريخ سورية المعاصر فقيراً بالشخصيات النضالية المشابهة. كما أن جرأة الراحل ونشاطه وابتعاده الأصيل، في كلامه ونمط حياته، عن مظاهر الترفّع والأبّهة وصنوف عادات المثقفين ثقيلة الظل، هي مما يستحقّ التقدير. كتب عن هذا الجانب عدد غير قليل ممن عملوا مع الراحل وممن يعرفونه عن قرب. لن يتناول هذا المقال عن الراحل شخصيته النضالية التي كثيراً ما قُدّرت، ولا شخصيته الحزبية التي كثيراً ما انتُقدت، بل سيتناول بالأحرى شخصيته السياسية، في ضوء المعضلة العميقة التي طالما عاشها اليسار السوري المعارض، بعد 1970 بوجه خاص.

يمكن تلخيص المعضلة المذكورة في أن اليسار السوري المعارض كان محكوماً بالعجز الذاتي عن زعزعة نظام الأسد، فهذا "يساري" بدوره، وله اللغة السياسية نفسها لليساريين المعارضين له وغير المعارضين (التقدّمية والاشتراكية والعلمانية والتحرير والإمبريالية ... إلخ)، وله الحلفاء الدوليون أنفسهم. أي إن اليسار السوري لم يكن فقط في عجز ذاتي عن تهديد نظام الأسد، بل أيضاً لم يكن له أن ينتظر دعماً خارجياً يساعده على تغيير الأسد، من الحلفاء "الاشتراكيين" الخارجيين الذين كانوا، كما هو معروف، حلفاء مخلصين لنظام الأسد، أكثر من إخلاصهم (إن وُجد) لهذا اليسار المعارض.

معروف، مثلاً، أن حافظ الأسد وقّع معاهدة الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفييتي في أكتوبر/ تشرين الأول 1980، وفي الوقت نفسه، أطلقت أجهزة مخابراته حملة ملاحقات ومداهمات واعتقال وتعذيب ضد الشيوعيين المعارضين، لترميهم، بعد ذلك، في السجون سنواتٍ لا حساب لها. وقيل إن الأسد أعطى أمر البدء بالحملة الأمنية ضد الحزب الشيوعي الذي يتزّعمه رياض الترك، قبل أن يستقلّ الطائرة إلى موسكو لتوقيع تلك المعاهدة. وذات مرّة، في رده على سؤال إن كان السوفييت يفاتحونه بخصوص المعتقلين الشيوعيين لديه، أجاب حافظ الأسد بأنهم لا يأتون على ذكر هذا الموضوع. والحقيقة أن جوابه، بناء على ما عرفناه عن السياسة السوفييتية، قريبٌ إلى العقل. وعلى كل حال، لم يتكشّف ما يشير إلى أنه لم يكن صادقاً في قوله.

معضلة اليسار السوري المعارض، في انسداد سبيل بلوغه السلطة السياسية أو حيازتها، إنْ بقواه الذاتية أو بمعونة حلفاء خارجيين

تمثلت، إذن، معضلة اليسار السوري المعارض، في انسداد سبيل بلوغه السلطة السياسية أو حيازتها، إنْ بقواه الذاتية أو بمعونة حلفاء خارجيين. كان يمكن حلّ هذه المعضلة بالطريقة التي اعتمدها حزب البعث في الوصول إلى السلطة، أي بالانقلاب العسكري. ولكن مع نجاح الأسد الأب في سد المنافذ السياسية غير البعثية إلى صفوف الجيش، وفي ضبط الجيش من خلال "تطوير" أجهزة الأمن العسكرية من جهة، وتغذية عصبيةٍ غير وطنيةٍ في صفوفه، من جهة أخرى، لم يعد هذا الحلّ في المتناول.

الآن، إذا تفحّصنا تفاعل المعارضين الشيوعيين السوريين مع المعضلة المذكورة نقع على تيارين: الأول تيار نشأ من خارج "العائلة" الشيوعية التقليدية، وبحث عن "الثورة" في أمّهات الكتب الماركسية. يمكن وصفه بأنه تيار ثقافي سياسي. وقد تمثل في الحلقات الماركسية التي بدأت تظهر في بداية سبعينات القرن الماضي، وتحوّل معظمها، في صيف 1976، إلى رابطة العمل الشيوعي التي تحوّلت إلى حزبٍ في صيف 1981. تميّز هذا التيار بغلبة العنصر الشاب وبأمانة نصوصية عالية استبطنت أولوية النصّ على الواقع، وبضعف العنصر السياسي بقدر ما ينطوي ذلك على صنوف التحايل والمناورة والتستّر باللغة. عرض هذا التيار كفاحية عالية وقوة إرادة تميّز من يلقي على عاتقه مهمّة التغيير. وقد كان لهذا التيار حضور معارض بارز طوال العقد التاسع من القرن الماضي، قبل أن يتحطّم جسُده في مطلع 1992، تحت ثقل حملات قمعٍ متلاحقةٍ طاولت حتى الوسط الاجتماعي والصداقي لعناصره.

لم يعترف هذا التيّار بالمعضلة التي صُغناها أعلاه، بل كان تفاؤلياً وعلى إيمانٍ بأن اليسار الصحيح الذي "يمتلك الأجوبة الثورية على أسئلة الواقع" قادرٌ بالعمل الجادّ والدؤوب (وهو ما لم يقصّر فيه) على إسقاط النظام، ولم يتردّد في رفع هذا الشعار في 1979، بعد ثلاث سنوات من نشوء المنظمّة، ليعود ويجمّده بعد أقل من سنة، حين رأى أن القوة التي تتقدّم لإسقاط النظام فعلاً إسلامية يراها أسوأ من النظام نفسه. وحرص هذا التيار على تسويغ خطوته تلك بقياسها على سابقة لينينية، بما يشبه أخذ الشرعيّة من النص.

التفكير السياسي للتّرك تحرّك بتأثير قناعتيْن ثابتتين لديه: الأولى ضرورة التغيير السياسي في سورية، والثانية عجز اليسار السوري عن القيام بهذه المهمّة

كان التيار الشيوعي الثاني أكثر واقعية في تصوّر إمكانات التغيير السياسي في سورية. يمكن القول إن رياض التّرك هو من "أنتج" هذا التيار الذي ذهب في الاتجاه المعاكس للتيار الأول، من حيث إعطاء الأولوية للواقع على النصوص، ومن حيث "تجريب" السياسة لصالح عملية التغيير. كان التّرك قارئاً للواقع أكثر مما هو قارئٌ للكتب، ينظر إلى الواقع بعين السياسي، لا بعين المثقف النظري، واستخدم إحساسَه السياسي، كما يفعل التاجر في السوق، لا كما يفعل الباحث الاقتصادي. يقول من عملوا معه إنه لم يكن يحفل كثيراً بالكتابات، وكان، من باب الظرافة الدالّة، يسمّي أدبيات الحزب "زعبرات"، أي كلام لا قيمة له، أو كلام لا يعني ما يقول، الأمر الذي يشدّد على أن التّرك كان رجل حركةٍ وفعلٍ بالدرجة الأولى، ومن هنا استمدّ معظم قيمته السياسية.

يبدو لنا أن التفكير السياسي للتّرك تحرّك بتأثير قناعتيْن ثابتتين لديه: الأولى ضرورة التغيير السياسي في سورية، والثانية عجز اليسار السوري عن القيام بهذه المهمّة. هذه مقدّمة لقبول فاعلية تغيير من خارج اليسار. وهذا، برأينا، ما يفسّر تساهله تجاه الإسلاميين السوريين الذين عرضوا في مطلع ثمانينات القرن الماضي مقدرة كبيرة على الحشد والفعل وتهديد النظام، المقدرة التي يصعُب جدّاً أن يصل إليها اليسار السوري المعارض. لكن التساهل مع الإسلاميين، سيما من موقع ضعفٍ يساري، يقتضي التساهل مع تهميش أفكار يسارية أساسية، منها العلمانية والوطنية النابذة للطائفية، ومنها الفكرة الديمقراطية نفسها. وفق المنطق "الواقعي" لهذا التيار، لا بأس من هذا التهميش، فقد كانت مهمّة إسقاط النظام تعلو على كل فكرةٍ أو قيمةٍ أخرى. والحقّ أن القمع المعمّم لنظام الأسد ضد كل من يعارضه، مهما كانت أفكاره وقيمه، يفسّر وصول من وصل إلى قناعة بأولوية إسقاط النظام بصرف النظر عن الطريقة أو الفاعل. طبيعيٌّ أن تفسير الوصول إلى هذه القناعة لا يسوّغها، فهي، في المجال السياسي، الوجه الآخر للقمع المعمّم في المجال الأمني.

المنطق السياسي الذي قاد الترك إلى التساهل مع الإسلاميين والعمل معهم قاده أيضاً إلى تجاوز العقدة التقليدية عند الشيوعيين تجاه أميركا

في العمق، لم يختلف منطق التّرك في تعامله مع الثورة السورية 2011 عنه في تعامله مع صراع الإسلاميين ضد نظام الأسد قبل ثلاثة عقود منها. ليس الرهان على تغيير النظام على يد الإسلاميين تأييداً لهم، بل بوصفهم القوة الداخلية الوحيدة التي يمكن أن تزعزع النظام. خلال هذه الفترة، كان كثيرون من أبناء التيار الأول قد أدركوا معضلة اليسار المعارض وتبخّرت تفاؤليتهم، وتبنّى كثيرون منهم خلال الثورة منطق التيار الثاني، وباتت عتبة قبول الإسلاميين، ومن ضمنهم الجهاديون، منخفضة لدى قطاع متزايد من اليساريين السوريين الذين ضيّعوا هويتهم على طريق السعي إلى "إسقاط النظام بأيّ شكل". والمنطق السياسي الذي قاد التّرك إلى التساهل مع الإسلاميين والعمل معهم قاده أيضاً إلى تجاوز العقدة التقليدية عند الشيوعيين تجاه أميركا، نظراً إلى ما يمكن أن تساهم فيه أميركا في تغيير نظام الأسد. وقد سبق له، كما هو معروف، أن تأمّل خيراً في سقوط نظام صدّام حسين على يد الجيش الأميركي.

بعد أقل من سنتين على اندلاع الثورة السورية، سوف يهجو التّرك الغربَ "ذا الخلفية الاستعمارية"، وسيهجو أميركا التي "تلتقي مع النظام في إشعال الحرب الأهلية"، والتي "موقفها من الثورة لا يختلف عن الموقف الروسي". كما سيعبّر عن خيبة أمله بالإسلاميين. ثم بعد ست سنوات من هذا الكلام، سيقول "لقد مررْنا بتجربة (الثورة السورية) كان فيها تيار الإسلام السياسي واحداً من الأسباب الرئيسية التي أدّت إلى الفشل". من شأن هذه الأقوال التي تسائل منطقه السياسي نفسه، أن تضع مقتديه السياسيين في حيرة. كأن نصيب اليسار السوري من الدنيا أن يعيش تراجيديا دائمة من التوتّر بين ما يتطلّع إليه وما يستطيعه.

يمكن نقد المنطق السياسي الذي مثّله التّرك، والذي اكتشف منتجه الأساس حدوده وأنه يحتاج إلى نقد. ولكن لا يحقّ لنا توجيه اللوم إلى أصحاب هذا المنطق، فلم يعرض منطق يساري آخر نجاحاً يُذكر. الواقع أن النظام الذي يمارس حرب إبادة سياسية تطاول كل صنوف المعارضة، مهما كان فكرها، يدفع الجميع أكثر فأكثر إلى جعل "إسقاط النظام بأي شكل" أولوية. من السهل ملاحظة زيادة نسبة اليساريين المستعدّين للعمل مع الإسلاميين في 2011 وما بعد، قياساً عليهم في بداية ثمانينات القرن الماضي. لن يصل إلى نتيجة مفيدة، من يبحث عن تفسير نكبات السوريين ومآسيهم خارج مثابرة نظام الأسد على إبادة أي معارضة سياسية، وعلى سدّ كل سبل التغيير السياسي الممكنة.

F5BC3D9E-B579-43CA-A6C4-777543D6715D
راتب شعبو

طبيب وكاتب سوري من مواليد 1963. قضى 16 عامًا متّصلة في السجون السوريّة. صدر له كتاب "دنيا الدين الإسلامي الأوّلَ" (دراسة) و"ماذا وراء هذه الجدران" (رواية)، وله مساهمات في الترجمة عن الإنكليزيّة.