في الرُّكود السّياسي في الجزائر
قال زعيم حركة البناء (حزب مؤيّد لسياسات السُّلطة في الجزائر، ومن المساندين للرّئيس المترشّح عبد المجيد تبُّون) عبد القادر بن قرينة، إنّ السياسة في الجزائر في حالة ركود، ووصف لتبيان ذلك مظاهر قصور وفساد، ما استدعى كتابة َهذه المقالة بمناسبة انطلاق حملات الانتخابات الرئاسية في منتصف أغسطس/ آب الحالي، بمشاركة مُرشّحَيْن آخريْن، هما رئيس حركة مجتمع السلم حساني شريف، والأمين العام لجبهة القوى الاشتراكية يوسف أوشيش.
جاء توصيف بن قرينة للوضع في إطار مقدّمات ما يجرى منذ 2019، تاريخ انطلاق الحراك ضدّ العهدة الخامسة للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة، أي على بعد أقلّ من شهر من الانتخابات الرّئاسية المزمعة في السابع من الشهر المقبل (سبتمبر/ أيلول)، وهي مقدّمات راكمت غلق المجال السياسي إضافة إلى المجال الإعلامي، وتحتاج معهما الطبقة السياسية، والمجتمع المدني، إلى مقاربة جديدة لتنظيم الحملة الانتخابية، قال عنها بن قرينة إنّها غير موجودة في ظلّ استمرار الفساد وغياب الكفاءة، ما يستدعي إيجاد معالم لعمل سياسي يعيد الفعل السياسي إلى الساحة، ويُسهم من خلالها في إثراء المقترحات المصاحبة للرئاسيات، إضافة إلى عودة الوعي لدى الناخب بأهمّية الانتخابات في تقييم السياسات العامّة، إنجازات ومكتسبات، نجاحات وإخفاقات، قصوراً وعدم إشباع الحاجيات الأساسيّة للمواطن... وهي كلّها إشكاليات، لو كان الفعل السياسي حاضراً والمجال الإعلامي مفتوحاً للنّقاشات، لكانت الآن موضوعاً لنقاشات وبلاتوهات تشارك فيها فعالياتٌ من الطبقة السياسية والمجتمع المدني، بكلّ أطيافهما، المُشارِكة والمُقاطِعة، المؤيّدة والمُعارِضة، وهو ما لم يتوفّر، والأسباب عديدة، وتحتاج وقفات تأمُّلية هي موضوع هذه المقالة، تقريضاً لملاحظة بن قرينة وتفسيراً للوضع، كما هو واقعياً.
تقديم السلبيات والتغنّي بالانتقاد لا يمكنه صنع عالم جديد، في حين أنّ الانتقاد الذي يتبعه تقديم وصفة علاج هو المطلوب
من خيارات مقاربة الرُّكود، توصيفا له ومعالجة للوضع، باعتباره قصوراً في التفاعل المجتمعي مع إشكالات تمسُّ الحياة اليومية للمواطن والسياسات العامّة، التي هي في الأصل مُخطّطة لإشباع حاجياته، النظر إليه على أنّه خيارٌ مخطّطٌ له، وهدفه الحدُّ من التفاعل الذي قد يؤدّي إلى تشجيع الناس على رفع الصوت بالمُعارَضة على الأوضاع التي تكون في غير مُرادهم في إشباع حاجياتهم أو المساس بحقوقهم، ليكون الخيار هنا من مخارجه غلق المجالين السياسي والإعلامي، وفتح المجال للتعبير فقط، للأصوات المؤيّدة أو المبرّزة للحقائق غير المُزعجة للسُّلطة. بالنسبة إلى هذا الخيار، فإنّ السلطة تكون هنا، لفترة ربّما، مزهوّةً بالحدّ من التعبير المُعارِض لبرامجها وسياساتها، بل لمقارباتها بالكلّية. ولكن، بعد أعوام، يشعر المُقرّبون من السُّلطة أنفسهم بأنّ غيابَ التفاعل يكون من تداعياته العزوف عن المشاركة، وصدى الصوت الواحد الموالي. صحيح، لكنّه مع الوقت سيطالب بمغانم الوقوف مع السُّلطة، بل يكون هناك تسفيه للرّأي والنقاش، وتردّ لمستوى التفاعل إلى درجة يتولّد معها كثيرٌ من التفاهة من هؤلاء، ممّا يجعل العمل السياسي في أحلك فتراته، ويُوجِد حالة الرُّكود التي تحدّث عنها بن قرينة، وهو يعرفها جيّداً من خلال التفاعل مع مسلكيته السياسية، منذ فترة.
ثمّة خيار آخر من مخارجه أيضاً العزوف والغلق التام للمجالين الإعلامي والسياسي، يشير إلى تضييق هوامش التفاعل بتضييق مجالات الترشُّح، حصر التعيينات في كفاءات موالية، واعتبار أنّ أيّ خروج عن ألف باء التعبير عن مصالح الوطن هو خيانة أو التخوين بمُجرَّد التعبير عن الحقائق، تصويب الحديث عن الإنجازات بالرغم من أنّ التعبير عن مصالح الوطن ليس حكراً على أحد، بل إنّ النقاش المتناقض بالتعبير عن الآراء كلّها هو من أبواب إحاطة صانع القرار بوجهات نظر تشكّل خياراتٍ يمكن المفاضلة بينها، ثمّ اتخاذ القرار الأمثل بالتعرُّض لجوانب إيجابية فيه وأخرى سلبية، مع إمكانية التعرُّض للنقد عند الفشل، والتعرُّض من ناحية أخرين للانهزام في الانتخابات، التي تكون حرّة نزيهةً وذات مصداقية.
هناك خيار ثالث يتمثّل في غياب أيّ مُقارَبات لقياس النجاح والفشل في السياسات العامّة، إذ لا يتيح الإعلام المُغلَق، ولا المجال السياسي غير التنافسي، إمكانيةَ الكشف على القصور، وبالنتيجة تغيب مُؤشّرات البرامج الانتخابية والكفاءات البديلة لرأب صدع السياسات العامّة الفاشلة، وهي فرصٌ ضائعةٌ على أيّ نظام، ذلك أنّ هذه الحالة، بهذا الخيار، هي الرُّكود بعينه المُكرّس للفشل والمُخفي للحقيقة، التي تعمل السياسة والإعلام، سواء في الوقت العادي أو في أفق انتخابات ما، من المحلّية إلى الرئاسية، لكشفها، وتقديم البديل لها، في شكل سياسات عامّة ناجعة، أو برامجَ انتخابية تدعو إلى دورة أخرى راشدة، كفؤة وناجعة للسّياسة العامّة.
تلك ثلاثة خيارات من بين عشرات يمكن الاعتماد عليها لكشف الركود، بقصد رسم خريطة طريق لوصفة علاج، ذلك أنّ تقديم السلبيات والتغنّي بالانتقاد لا يمكنه صنع عالم جديد، وحالة بديلة في حين أنّ الانتقاد الذي يتبعه تقديم وصفة علاج هو المطلوب، وهو ما لم يقم به عبد القادر بن قرينة الذي وصف الحالة السياسية، وقال عنها إنّها راكدةٌ، من دون أن يقول السبب، ولم يأتِ على بديل.
تبدأ مسارات البديل عن الركود بالحديث عنه وربّما، للمفارقة، نحن شاكرون لبن قرينة أنّه أفسح المجال لتوصيف ذلك الركود بأكثر من عبارات الإشارة اليه، وهو الحديث الذي يُعدُّ، هنا، اعترافاً بوجود إشكالية، من دون الغوص في البحث عن مسبّباتها، والمُستهدَف هو رسم لعلاج للحالة له جوانب شكلية وأخرى أعمق. من الجوانب الشكلية تلك التي تحتاج إلى قرارات مُستعجَلة، العودة إلى الحالة العادية في المجالين الإعلامي والسياسي، بحيث إنّ الفترة، منذ 2019 التي شهدت أحداثاً جساماً قد تكون بطبيعتها الاستثنائية متطلّبة لإجراءات ضبط انتهت، وتستدعي، بمرجعيّة الموعد الانتخابي المقبل وما سيتبعه، استحقاقات أخرى مهمّة؛ استعادة الفعل السياسي متمثّلا في حرّية التعبير والنقاش المتناقض متعدّد الآراء، ليكون الأمر بالتالي، شكلياً، مرتبطاً بقرار فتح المجالين المذكورين، مع إحاطة ذلك الفتح بالقوانين التنظيمية التي تمنع من الانزلاقات المتّصلة بالشخصنة، ونشر الكراهية أو التشهير بالناس، وصولاً إلى المساس بوحدة البلاد وأمنها من التهديدات، وكلُّها مقتضيات قانونية تمّ التشريع لها، ويمكن إعمالها حتّى لا تكون من حجج الإبقاء على قرارات الغلق أو العمل بها، فعلاً وواقعاً.
لا يتيح الإعلام المُغلَق، ولا المجال السياسي غير التنافسي، إمكانيةَ كشف القصور، فتغيب مُؤشّرات البرامج الانتخابية والكفاءات البديلة
أمّا الجوانب المضامينية المُستعجَلة فهي فسح المجال أمام الكفاءات، كلّ في المجال الذي يعمل فيه، ويحسن الحديث عن اشكالاته، ما سيعيد الحياة إلى النقاشات السياسية والفكرية دونما رادع من معارضة أو خلاف مع السلطة، ذلك أنّ الحملة الانتخابية للمرشّحين الثلاثة، في رئاسيات سبتمبر، تستدعي العودة إلى ذلك الجو سعياً نحو حرّية التعبير باعتبار اختلافات المرجعيات الأيديولوجية للمرشّحين، وخططهم السّياسية للفترة القادمة.
المهم، هنا، إبعاد شبح الركود الذي سيحقّق أهدافاً ثلاثة: عودة الوعي السياسي، والمشاركة السياسية، ويُوجِد تفاعلاً بين فئات المجتمع المختلفة، سواء كانت نخبةً سياسيةً أو مُفكّرين، كُتّاباً ومحلّلين، ممّا كنّا نشاهده في الأعوام السّابقة، وكان مُتّصفاً بثراء الساحة السياسية، بعيداً من الأحزاب المجهرية أو التصحير السياسي، الذّي مارسته العصابة، وكاد يُؤدّي إلى عهدة خامسة في ظلّ مرض الرئيس الراحل بوتفليقة، منذ 2012 تقريباً، وأضاع للأسف فُرصاً كثيرة على الجزائر، بل جرّها إلى العودة إلى مربّع الأزمة، مع انخفاض أسعار المحروقات، و تبخُّر احتياطي الصّرف وعائدات الريع.
الجزائر على مشارف حملة انتخابية لانتخابات مصيرية تحتاجها بمرجعيّة الأهداف التي يرتجيها الجزائريون منذ الاستقلال، ولم يصلوا إليها، أو وصلوا إلى تحقيق جزء منها. وما يهم ليس إقرار وجود ركود، بل المُهمّ هو التوافق على ما يرفعه في إطار الحفاظ على البلاد، والسعي المجتمعي، نخبةً ومواطنين، سلطةً و شعباً، إلى تجسيد تلك الأهداف، ذلك أنّ الاختلاف سنّة المجتمعات كلّها، لكن ثمّة ثوابت تستدعي الإجماع بشأنها، وأخرى تقتضي لزاماً ووجوباً تعدُّد الآراء حول مضمونها، ومنها موضوع السياسات العامّة، في المجالات كافّة.