في الحديث عن المغارب... مسانداً عبد القادر الشاوي
قرأتُ، مرّات، مقالات الكاتب الأديب عبد القادر الشاوي في "العربي الجديد"، وفهمت منها، للإنصاف، أن المغاربيين، لينطلقوا إلى المستقبل، عليهم تجاوز عقبات اللُّغة، بداية، ومنها عتبة عبارة المغرب العربي التي أضحت ثقيلة على وعي المغاربيين وعقولهم، بسبب ما تلوكه الألسنة بشأن معنى العبارة ودلالاتها، بدون فهم، في الظرف الحالي العصيب. ولهذا اخترت أن أكتب عن مسائل حيوية يمكن أن تضيف إلى كلامه وتسهّل علينا تصوُّر ذلك المستقبل بدون الأخذ والرد في إشكالات محسومة تاريخيّا، ولا مناص من التفكير، بدلا من ذلك، في تحدّيات المستقبل، وكيف يجب أن تُرفع بصفة جماعية، للنّجاح في تبوُّء مكانة أفضل وأكبر، في المنطقة وفي العالم، وتجسيد مشروع العروج الحضاري، بتعبير مالك بن نبي، رحمه الله.
تأتي هذه المقالة، إذن، في إطار توضيح بعض أمور ملتبسة في عقل ساكنة شمال أفريقيا ووعيها، بشأن ثلاث إشكاليات حيويّة: الجغرافيا والهويّة والتُّراث المشترك الذي تتصارع بشأنه، منذ فترة، قنوات من المغرب والجزائـر، وطاول كلّ شيء من الكسكسى إلى اللباس التقليدي مرورا بمسلّمات جغرافية، رموز تاريخية وفضاءات هويّاتية كانت، إلى أمس قريب، قواسم مشتركة، ولا يمتدُّ إليها الشكّ، لا من هؤلاء ولا من أولئك.
لننطلق، بداية، من الجغرافيا لإقرار أنّ الدولة الوستفالية التي تُعرف بالدولة القومية أو الدولة الأمّة، من صنع متغيّراتٍ كثيرة متراكمة، ولها سياقات تطوُّر في التاريخ عرفته كل الدُّول، وليس منها من يمكنها الادّعاء، اليوم، أنّها تكوّنت، منذ فجر التاريخ، بالحدود الحالية، وبمكوّنات الهويّة وما يتفرّع عنها بالشكل الذي يُوجد لديها، الآن، وهي الحقيقة التي يجب أن ننطلق منها لبناء إدراكنا للدولة المستقلّة في منطقتنا، والتي يجب أن نعترف بها، وأن لا نستخدم أيّا من الحجج أو الأسباب لنزع قدسية هذه الجغرافيا، وما يتعلّق بها من حدود، حتى في أشدّ حالات الاختلاف أو التوتّر السياسي في زمن الأزمات والصراعات.
يمكن لكثير من التُّراث المغاربي أن يصبح عالميا باسم المنطقة، وليس محلّ منازعات تلوكها ألسنة صانعي المحتوى من كلّ حدب وصوب بعيدا عن الهويّة الجامعة
نتحدّث عن الجغرافيا، هنا، لأنّ بعضهم يستغلُّ فترة التوتُّر لتصعيد إشكالات إعادة النظر في الحدود كما يتمُّ استدعاء سياقاتٍ ماضية لم يكن لأحدٍ مسؤولية فيما نجم عنها من رسم للحدود وتحديد للجغرافيا، كما لا يمكن استخدام التاريخ للمطالبة بما لم يكن، في الماضي، مُطالَباً (بفتح اللام) به، على غرار بعض المناطق المدّعى أنّها من ملك دولة ما تاريخيا، وتُطلق عليها في دستورها بالحدود الحقّة، في حين أنّها عندما اعترفت باستقلال الدّولة التي تصارعها تلك المناطق تكون قد اعترفت بكل ما نتج من الماضي الاستعماري.
ومن ناحية أخرى، و بخصوص منطقتنا المغاربية، هل يمكن استخدام سياقات تاريخية تحرّكت فيها الحدود، ورُسمت فيها الكثير من الجغرافيات للمطالبة بمناطق محدّدة أو استدعاء ذلك التاريخ للمطالبة بما يحمل مسمّى الحدود الحقّة؟ عرفت منطقتنا، للعلم ولإسكات أبواقٍ تسمّي نفسها علماء ودكاترة في التاريخ، من هنا وهناك، في عهود تاريخية ماضية، دولا تمدّدت إلى ما هو أبعد من الحدود الحالية، مثل الدّولة المرّينية، الزيرية، الرستمية، إضافة إلى مثال دولتي الموحّدين أو المرابطين، من قبل، وغطّت فضاءات المنطقة بأكملها، أقلّ أو أكثر، بين عهدٍ تاريخيٍّ وآخر، فهل يمكن الرجوع إلى تلك المراحل التاريخية لرسم حدود ما أو تسجيل مطالباتٍ ما، بل والادّعاء، من جهلة هذه الجهة أو تلك، من منطقتنا، بهذه الحقائق، ارتكازا على هذه السياقات بما اندثر في التاريخ وأضحى حكاية تُحكى وماضبا طوته السُّنون؟
هناك إشكالية الهويّة التي نتوقّف عندها للنّظر بعين العارف بتاريخ والأعراف والتقاليد ومكوّناتهما فضلا عن اللُّغات، اللهجات والسرد الهوياتي كلّه، للحديث عن صراع مفرّغ من أيّ قصد، خلفيّات كانت أو توجّها حيث لا ندري الدافع وراء إثارة مسائل جرى حسمها منذ قرون بالانتماء إلى دائرة حضارية ومعرفية واحدة والانصهار في تجارب تاريخية ذاتها، من دون إغفال المصاهرات واختلاط المجتمعات، لتصنع منّا أمّة واحدة لا يمكنها الاختلاف على قشور يعرف الجميع أنّ مثيراتها جهاتٌ، إمّا جاهلة ولها أهداف مشبوهة أو متلاعبة بتوتُّرات سياسية، لتوجد بيئة مغايرة لمسلّماتٍ أصبحت تمثّل ذواتنا ولا انفكاك لنا عنها ألبتّة. هل يُعقل أن نثير، بالنتيجة، إشكالاتٍ خاصّة بالانتماء إلى منطقة واحدة أوجدتها كيمياء الجغرافيا والتاريخ، ومزجت بين مكوّنات ساكنة المنطقة، حتّى لا تكاد تفرّق بين الجزائري والتُّونسي أو بين الجزائري والمغربي، على الأصعدة كافة، حتّى مع الاعتراف بوجود مشكلاتٍ سياسيّة في دائرة السياسة العليا تُدار من صانعي القرار في البلدان في المنطقة؟
تتصارع مواقع مغربية وجزائرية على من يملك سبق اختراع حلويات، أطباق، ألبسة رجالية ونسائية إضافة إلى أسماء الأماكن، ومرورا بمسائل خاصة بالفن، في ضجيج أضحى غير مقبول
نصل إلى إشكالية التُّراث المشترك المتفرّع، في الثقافة والأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع، من الهويّة الجامعة، حيث تتصارع مواقع مغربية وجزائرية على من يملك سبق اختراع حلويات، أطباق، ألبسة رجالية ونسائية إضافة إلى أسماء الأماكن، ومرورا بمسائل خاصة بالفن، في ضجيج أضحى غير مقبول، بل لعب أطفال حيث بلغ درجة أضحكت وتضحك علينا العالم كما جرى في قضية الزلّيج أو الرسم (الشكل الهندسي) الذي حمله قميص رياضي للنُّخبة الجزائرية لكرة القـدم، والذي وصل إلى حدّ إيداع شكوى لدى شركة رياضية عالمية (أديداس، مصمّمة القميص) تدّعي أنّ المغرب صاحبة الرسم، في حين أنّه موجود منذ عهد العثمانيين في مساجد، حمّامات الجزائر وبيوتها، من شرقها إلى غربها، منتقّلا إلى الغرب، حينا، وإلى الشرق، أحياناً أخرى، في المغرب وتونس، من دون أن تثير المسألة كلّ هذا الضجيج أو الخلاف.
وكانت قضية الكسكسي ومن يملك سبق اختراع مكوّناته وتسميته بذلك الاسم قد تمّت تسويتها، بالاتفاق بين بلدان المنطقة، باعتباره تراثا لا ماديا مشتركا لدى "اليونسكو". ولكن الجميع، في المغرب والجزائر، نسي تلك المرجعية في التعامل مع التُّراث المشترك لتصبح القضيّة مناكفة صبيانية، حيث كان يمكن لكثير من ذلك التُّراث، أيّا كانت طبيعته، أن يصبح عالميا باسم المنطقة، وليس محلّ منازعات تلوكها ألسنة صانعي المحتوى من كلّ حدب وصوب بعيدا عن الهويّة الجامعة، وتداعيات ذلك كله على المخيال الجمعي للمنطقة التي عاشت تحت نير الظُّلم الاستعماري والاستيطاني، وتعاونت، على مرّ التاريخ، لإخراج الأجنبي، ولكنها لم تصنع لنفسها فضاءات تعاون وتعايش حقيقيين.
ربما يلاحظ قارئ هذه المقالة تجنُّب كاتبها استخدام الاسم الجغرافي المعتاد للمنطقة، وهو المغرب العربي أو المغرب الكبير. ولم يكن ذلك عن غفلة بل تصميم مسبق، لأنّ ثمة من يستغلّ الاسم الجغرافي ليقول إنّ المنطقة، بحدودها الحقّة، يجب أن تعود إلى ماضيها من التمدُّد المزعوم لدولة بعينها باستقطاع، زعما، مناطق كثيرة مما يُطلق عليه الصّحراء الشرقية، مدن ساحلية محدّدة، إضافة إلى مناطق شاسعة قد تغطّي، إذا تتبّعنا تلك المزاعم، المنطقة، وتبتعد بالحدود الحقّة نحو الجنوب إلى موريتانيا غربا، وإلى الساحل في أقصى الجنوب، بل إلى أبعد من ذلك، لو قرأنا الخريطة التي تحدّث عنها بعضهم بأنّها حدود تلك الدولة.
شباب بلداننا ينتظرون عملا وحياة كريمة ومسارا تشاركيا في فضاء الإبداع العالمي، ومناط ذلك كلُّه تجسيد ما تقدّم من حُلُم الوحدة والابتعاد عن حروب طواحين الهواء
ويمكن للقارئ الكريم أن يعود إلى عشرات من مقالاتي في "العربي الجديد" أو في غيرها من الصحف والمجلاّت، كما يمكنه أن يعود إلى مداخلاتي في وسائل الإعلام وفي الملتقيات العلمية، ليعرف كم أنا مهووس بالمنطقـة وبوجوب سيرها نحو وحدتها. ولذلك لن يُستخدم اسم المغرب العربي أو المغرب الكبير إلا في حالة تجسيد الاتحاد المغاربـي وإلا، فإنّ اسم المغارب، وفق اقتراح عبد القادر الشاوي، سيكون، دوما، الاسم الذي سأطلقه غضبا، من ناحية، من تلك الإشكالات التي لم نعرف كيف نعالجها بهدوء فيما بيننا ومن دون تدخّل أو انخراط أي أجنبي عن المنطقة أيّا كان. و من ناحية أخرى، إحقاقا للحقّ الذي أراه في أنّ الجغرافيا والهويّة والتُّراث المشترك خطوطٌ حمراء يجب ألّا ننخرط في الخلاف بشأنها لنبقي للأجيال القادمة مخيالاً جمعيا يمكّننا من البناء عليه، عندما نقضي على المشكلات السياسية، من تجسيد حلمنا الكبير باتحاد مغاربي حقيقي تخلو فيه الحدود كلّها، الموروثة والحقّة، ونعيش، كلُّنا، بهويّة واحدة، مواطنين لدولة واحدة تحمل اسم منطقتنا الموحّدة.
لا يمكن إنهاء المقالة دون الإشارة إلى واجب التغيير الديمقراطي وإبعاد المنطقة عن الانخراط في التطبيع مع أعداء الأمّة، كما يجب أن لا ننسى واجب إخضاع مستعمر الأمس لواجب الاعتراف، الاعتذار والتعويض عن الفترة الاستعمارية/ الاستيطانية، وهي شروط تعيد لنا مخيالنا الجمعي، وتذكّرنا بأنّ ذاكرتنا هي محفّز القضاء عن التناول الصبياني لتلك الإشكالات التي تحدّثنا عنها، الجغرافيا والهوية والتراث المشترك.
نذكّر أبناء المنطقة، فقط، بأنّ شباب بلداننا ينتظرون عملا وحياة كريمة ومسارا تشاركيا في فضاء الإبداع العالمي، ومناط ذلك كلُّه تجسيد ما تقدّم من حُلُم الوحدة والابتعاد عن حروب طواحين الهواء التي، للذّكر، وهي مسلّمة، لا يمكن لأحد الاختلاف بشأنها، رواية كتبها الإسباني سرفانتيس عندما كان أسيراً في الجزائر.