في التزام الصين الصمت

07 مارس 2022

لافتة "نحن ندعم أوكرانيا" على جدار السفارة الكندية في بكين (3/3/2022/فرانس برس)

+ الخط -

يؤشّر السلوك الصيني حيال الغزو الروسي أوكرانيا، مجدّداً، على أنّ ما جرى من اتفاقات تعاون، اقتصادية الطابع بين بكين وموسكو قبل أسابيع، لم يكن تحالفاً استراتيجياً بين البلدين، وإنما تعاون تريد كلّ واحدة من الدولتين الكبيرتين من خلاله تحقيق مصالحها، بالاستفادة مما يمكن أن يقدّمه الآخر على الصعيدين، السياسي والاقتصادي. وهذا أيضاً هو التفسير المنطقي لامتناع الصين عن التصويت في مجلس الأمن بخصوص قرار إدانة روسيا على حربها ضد أوكرانيا، بدلاً من التصويت ضد القرار كما يُفترض من حليف استراتيجي حقيقي أن يفعل.

الصين التي قالت أشياء كثيرة بشأن الحرب في شرق أوروبا لم تقل شيئاً في الحقيقة، فبينما اختارت ألّا تسمّي الحرب الروسية "غزواً" فإنّها دعت إلى وقفها، أي أنّها لا تدعم استمرارها، وإنْ كانت، كما تقول تصريحات مسؤوليها "تتفهم المخاوف الأمنية الروسية". ثم إنّها عرضت التنسيق بين روسيا وأوكرانيا لوقف الحرب بالطرق الدبلوماسية، استناداً إلى علاقاتها السابقة الطيبة مع كييف، بمعنى أنّها تعدّ نفسها طرفاً محايداً، لا حليفاً لأحد طرفي النزاع.

تقول الصين عادة إنّها تضع مصلحة الشعب أولوية لها في كلّ سياساتها. وهذا في الواقع ليس كلاماً دبلوماسياً خالصاً، بل هو تعبير عن نهج "البراغماتية على أساس وطني ثابت" الذي تتبعه الصين منذ تحولها عن الأيديولوجيا الماركسية عام 1978، من غير أن تعلن ذلك على الملأ، أي منذ سياسة الإصلاح والانفتاح التي قادت الصين إلى اقتصاد السوق الاشتراكي الذي تسمّيه الصين "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية"، برغم حفاظها على الشعار الشيوعي. وهكذا، لا تفعل الصين ما يضرّ مصالحها الخارجية، حتى وإنْ تعلق الأمر بـ"حلفائها" المفترضين.

ليست الصين طرفاً محايداً في الحقيقة، فمن مصلحتها أن تنجح روسيا في وقف تمدّد حلف شمال الأطلسي

انعقدت في الأيام الماضية، في بكين، اجتماعات "الدورتين السنويتين" دورة المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني، ودورة المجلس الوطني للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني، الذي هو أعلى سلطة سياسية في الدولة. انشغلت الاجتماعات التي يشارك فيها خبراء من مختلف القطاعات بقضايا التنمية الداخلية، وتقرير نسبة النمو المأمولة للعام المقبل (حدّدته عند 5.5%)، واستحداث فرص العمل، واستثمار الأسواق الداخلية لتجاوز تداعيات أزمة جائحة كورونا، والتركيز على جودة المنتجات الصناعية الصينية خلال المرحلة المقبلة، فضلاً عن القضايا الخاصة بهونغ كونغ ومكاو وتايوان. ولم تقل شيئاً واضحاً بخصوص الحرب الروسية الأوكرانية سوى أنّ "الحكومة على استعداد للعمل مع الآخرين في المجتمع الدولي لتقديم مساهمات جديدة وأكبر لدفع السلام والاستقرار والتنمية والازدهار في العالم".

والحال أنّ الصين توقفت عند اتفاقية التعاون الاقتصادي مع روسيا، ومن شأن هذه الاتفاقية مساعدة موسكو على تخطّي آثار العقوبات الاقتصادية الدولية الناتجة عن غزوها أوكرانيا، وراحت تسعى في الوقت نفسه لطرح نفسها كقوة عالمية ساعية للسلام. بالطبع، فإنّ الصين ليست طرفاً محايداً في الحقيقة، فمن مصلحتها أن تنجح روسيا في وقف تمدّد حلف شمال الأطلسي، لكنّ ذلك لا يتعارض كونها تريد فعلاً وقف الحرب، لأنّها تهدد مصالحها التجارية والاقتصادية مع مختلف مناطق العالم، بما فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون المناهضون لروسيا، وكذلك بشأن استكمال خطتها "الحزام والطريق" التي من بين أهدافها توثيق صلاتها التجارية مع أوروبا.

لكن، هل هذا هو الموقف الصيني النهائي من الأزمة في شرق أوروبا؟ بالطبع لا، فالثابت الوحيد في سياسة الصين مصالحها وخططها الاستراتيجية. وهذا يعني أنّ الموقف الصيني يمكن أن يتغير مع تبدّل ظروف الحرب ونتائجها، كي توائمها مع مصالحها الثابتة. هكذا، يمكن أن تبتعد أكثر عن روسيا، أو تقترب منها، بحسب المستجدّات، وبحسب الدور الذي ستقبل القوى العالمية الأخرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة، للصين أن تساهم فيه.

من غير المتصوّر أن تدين بكين الحرب الروسية على أوكرانيا، وهو الموقف الذي ترفض اتخاذه

مؤكّدٌ أنّ الصين تفضل التعاون مع الولايات المتحدة خلال السنوات المقبلة بدلاً من المواجهة معها، باعتبار أنّ المواجهة حتى وإن كانت باردةً ستنعكس سلبياً على خططها الاقتصادية والتنموية. وهذا يعني أنّ موقفها من الحرب يمكن أن يكون ورقةً تغري بها الولايات المتحدة كي تغير الأخيرة موقفها المتشدّد ضدها، خصوصاً منذ تولي جو بايدن الرئاسة في البيت الأبيض، لصالح قبول التفاهم معها. لكنّ للأمر حدوده أيضاً، إذ من غير المتصوّر أن تدين بكين الحرب الروسية على أوكرانيا، وهو الموقف الذي ترفض اتخاذه، لأنّه يتعارض مع الشكل الجديد الذي تستهدف الصين تحقيقه في النظام الدولي، ليتحوّل من حالة القطبية الأميركية الواحدة، إلى حالة الأقطاب الإقليمية ذات النفوذ في محيطها، فتتوفر الصين على نفوذٍ كافٍ في شرق آسيا، كما تتوفر روسيا على نفوذ مقنع لها في شرق أوروبا، تعترف به السياسة الدولية للولايات المتحدة، ولا تسعى إلى محاصرته كما تفعل حالياً.

تدرك الصين جيداً أنّ من واجبها عدم الغرق في وحل الحرب الروسية على أوكرانيا، لذا من الطبيعي أن تكون محصلة مواقفها من تلك الحرب التزام الصمت، أقلّه حتى اتّضاح الرؤية بشأن الموقف في شرقي أوروبا. أما الآن، لا تفعل الصين سوى الموازنة بين الاستجابة لمخاوفها الأمنية الناشئة عن التهديد الأميركي واستمرار القطبية الأميركية في العالم، ومصالحها الاقتصادية المرتبطة، في كلّ الأحوال، بالولايات المتحدة. السؤال هنا: هل تفضل الصين الاستجابة لمخاوفها الأمنية أم لمصالحها الاقتصادية، لو كانت مضطرّة للاختيار مع تطور مجريات الحرب في أوروبا؟ ربما تكون الصين قد أعدّت لهذه اللحظة طويلاً، واستعدّت لأغراضها الأمنية من خلال نجاحها الاقتصادي.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.