في الانقلابات الأفريقية... المسلّمات والتداعيات
تستدعي عملية فهم ما يجري، في أفريقيا، من انقلاباتٍ، تفكيرا يجمع بين مسلّمات الظّاهرة مع الاحتفاظ بخصوصيات كلّ حالة، إضافة الى استطلاع تداعيات هذا الوضع غير الطبيعي لانتقال السلطة، والأسباب الداعية إليها، خصوصا أن الأمر بدأ يثير استغرابا كثيرا، بعد قرابة ثلاثة عقود، ظن بعضهم أن القارّة استقرّت على تبنّي عمليات التحوّل نحو الديمقراطية ومسارات التنمية بنسب نمو برقمين، لبعض البلدان.
تشبه سياقات الانقلابات في القارّة موجة الاستقلال التي حدثت في ستينيات القرن الماضي، لأن العملية بدأت تتمدّد من الساحل إلى غربها، ثم إلى وسطها، ليصل عددها إلى تسعة انقلابات ناجحة، وهي ظاهرة لم تعد، كما كانت في الماضي، تحدث من الجيش، فقط، بل تطوّر الأمر الى حدوث انقلابات بقيادة حرس رئاسي، جمهوري، ثم يلتحق الجيش بالتأييد والمساندة.
من مسلّمات ظاهرة الانقلابات أنّها تتمُّ في البلدان التّي استقلت عن فرنسا، صوريا، وتأتي في أعقاب موجة تراجع مكانة فرنسا في القارّة، وتوازي ذلك مع تنافس محموم بين قوى عالمية وأخرى إقليمية على الاستحواذ على معادن وطاقة، وعلى خيرات القارّة مما يمكن القول، معه، إنّ هذه الموجة ليست بدافع انتشار الفساد، كما يدّعي الانقلابيون، بل لاحتواء آفاق الأزمة الاقتصادية وضيق الكعكة التي كان المستحوذون على السلطة، ومنهم القادة الانقلابيون، يتقاسمونها فيما بينهم بمساعدة وتأييد من القوة الاستعمارية السّابقة، فرنسا، بالوجود الاقتصادي المكثف في تلك البلدان، من ناحية، وبمساندة أمنية/ دفاعية دائمة الوجود في أفريقيا الفرانكفونية، بفعل الاتفاقات الأمنية/ الدّفاعية الموقّعة بين البلدان المستقلة وفرنسا في فترة موجة الاستقلال.
يُراد لأفريقيا ألا تُرى إلا من خلال منظور عدم الاستقرار أو مناطق ملاذ/ موارد تغذّي النظام الرأسمالي
تشير المسلمة الأخرى إلى طبيعة تلك الانقلابات التي لا تغيّر فيها لحالة التبعية، بل هي تعبير عن حلّ لصراعات أسرية (حالة الغابون) أو تحالفية بين محيط الرّئيس والحرس الرّئاسي (حالة النيجر)، أو باعتبارها تداعيات لانسحاب فرنسي فعلي أو وشيك من السّاحل (حالات مالي والنيجر وبوركينافاسو إضافة إلى تشاد)، وما يعبر عن تغيير جهة التّبعية، وليس إلغاء للتبعية، ذاتها، أن البلدان التي وقع فيها الانقلاب تلجأ إلى طلب المساندة من مليشيات أجنبية، تأتي من أوروبا (فاغنر أنموذجا) أو توقع على اتفاقات شراكة وتعاون، بغض النّظر عن مضمون ذلك، مع بعضها الآخر، لكن بدون عوائد تُذكر على التنمية وحالة المواطن الأفريقي، بل هو تجديد للتبعية. ولكن بلبوس جديد، على غرار ما حدث مع الصّين، تحت غطاء مبادرة طريق الحرير (جيبوتي أنموذجا).
من مسلمات تلك الانقلابات، أيضا، أنها تحمل مؤشّرات تراجع مكانة فرنسا، حقيقة، في العالم وفي القارّة، بالذات. ولكنها، على النقيض من ذلك، تحمل مؤشّرات محاولة فرنسا احتواء وضع التنافس مع القوى العالمية والإقليمية على القارّة، بجعل القارّة منطقة ذات تفاعلات صراعية كبيرة، لا تجدي معها الاستثمارات الاقتصادية. ولهذا لوّحت الصين (بل جسّدته على أرض الواقع) بذلك التّكامل مع روسيا في حماية استثماراتها الاقتصادية الكبرى في القارّة، بأن يكون لها المعول الاقتصادي ولروسيا المعول الأمني/ الدفاعي بمليشيات فاغنر التي كانت الذراع الواقية للانقلابيين، سواء لحماية الوضع الجديد أو لتأمين الموارد المالية التي تضمن الانتقال السلطوي الجديد، من ناحية، وحماية الصوت الروسي بالإفلات من العقوبات والقرارات الأممية (مجلس الأمن)، من ناحية أخرى، باعتبار أن روسيا تملك حق النقض (الفيتو)، ويمكنها إشهاره إذا لزم الأمر في وجه من يريد إيقاع عقوبات أو إصدار قرارات في المؤسّسات ذات الأهمية، والتي لروسيا صوتٌ رئيسٌ فيها.
من مسلّمات الانقلابات الأفريقية أنها جاءت متوالية، زمنيا، في فترة ما بعد جائحة كوفيد 19 وبروز مؤشّرات إعادة تشكيل النظام العالمي، وكأن الأفارقة لا يشكّلون إلا قطعة شطرنج بدون فائدة، لأن عدم الاستقرار، نزوح اللاجئين، الحروب الأهلية، صراعات الأجنحة داخل النظام الواحد (حالة السودان، بين الجيش السوداني ومليشيات الدعم السريع المتحالفين، إلى وقت قريب، والمتصارعين حاليا)، هي قدر القارّة، ذلك أن الأزمات لا تُدار في ميكانيزمات النظام الرأسمالي إلا بالصراعات التي تعيد الدورة الاقتصادية إلى توازنها بصفقات السلاح المحتاجة، أصلا، إلى تجربتها، استخدامها وتسويقها لتستعر بها تلك الصراعات، وليس أفضل من القارّة الأفريقية لإعادة ذلك التوازن، كما كان الأمر بظاهرة الاستعمار بشكليه القديم (برلين 1885) والجديد (بعد موجة الاستقلال).
الخطاب الأخلاقي الخاص بنشر الديمقراطية ومعايير الرشادة والحوكمة عبارات رنّانة تتضارب مع مصالح القوى العالمية
من مسلّمات الأوضاع الانقلابية في القارّة أن الخطاب الأخلاقي الخاص بنشر الديمقراطية ومعايير الرشادة والحوكمة كلها عبارات رنّانة تتضارب مع مصالح القوى العالمية، عندما يتعلق الأمر باستفادة شركاتها الكبرى من موارد القارّة، وبالأسعار الزهيدة، ولا يتأتى ذلك إلا بالانقلاب على مبادئ الديمقراطية. وقد تكون حالة الغابون أفضل نموذج، إذ إن تاريخ الانقلاب هو ذاته تاريخ الإعلان عن نتائج الانتخابات التي كانت فرنسا والغرب يعلم أن علي بانغو زوّرها، لأن ما تسمّى السُّلطة الشرعية، هنا، تتعارض مع ظروف الوصول إليها، وتزداد وضوحا عندما يعلم الجميع أن بانغو نظام عائلي يجثم على موارد الغابون وخيراتها منذ قرابة ستة عقود، أي منذ الاستقلال الصوري عن فرنسا.
أما تداعيات تلك الانقلابات في القارّة فيشير أولها إلى تنامي ظاهرة المناطق الرمادية التي تنتشر فيها كل أنواع الجرائم ضد الإنسانية، من تجارة الرقيق، الهجرة غير الشرعية أو التجنيد في الجماعات الإجرامية والإرهابية ومنطقة الساحل، باعتبارها نموذجا حقيقيا لذلك. تستحوذ على كل تلك المؤشّرات وتغذّيها ببقائها مناطق ملاذ لكل التفاعلات المنتجة لمؤشّرات عدم الاستقرار، التدخلات الأجنبية والسلطوية المتوازية معها، بظاهرة الانقلابات. ومن تداعيات الظاهرة الانقلابية أنها تجعل الغلبة للعامل الأمني/ الدفاعي على العامل الاقتصادي، وتُبقي، بالنتيجة، على الأوضاع التي تستدعي مؤشّرات عدم الاستقرار، وتوابع ذلك من تدخّل أجنبي، مليشيات، كثافة الأعمال الإرهابية وغيرها من الأوضاع التي ستتكثف وتتمدّد لتشكل عامل إعادة تشكيل جغرافية المنطقة، برمّتها.
هناك تداعيات أخرى، تتمثل في أن استغلال الموارد في أفريقيا لا يمكن أن تشكّل مدخلا لتنمية القارّة، بل مدخلا من مداخل الإبقاء على التفاعلات الصراعية مستعرّة، لأن النظام الرأسمالي لا يمكنه تحمل تكاليف العودة إلى توازنه من الكساد بتبادل تلك الموارد بالأسعار التي تستدعي الإقلاع الاقتصادي، بل لا يمكنها أن تقوم بذلك إلا في ظروف عدم الاستقرار. وبالنتيجة، ظاهرة الانقلابات من مداخل فهم ميكانيزمات عمل النظام الرأسمالي في فترات الأزمات وكيفية استغلاله، استراتيجيا، تلك الظروف لنهب الموارد بمساعدة النظم السلطوية، أيا كان شكلها.
هرمية النظام العالمي لن تتشكّل من دون ضحايا والقارّة الأفريقية كانت، ولا تزال، الضحية المثلى
من تداعيات الظاهرة أن عملية التنمية، من ناحية، والتحوّل نحو الديمقراطية، من ناحية أخرى، كلها دخان لذرّ الرماد على قارّة يُراد لها ألا تُرى إلا من خلال منظور عدم الاستقرار أو مناطق ملاذ/ موارد تغذّي النظام الرأسمالي، ليعود إلى توازنه، أو لتحقيق نسب نمو مرتفعة تناسب مستويات معيشة الفرد الغربي الذي يحتاج كهرباء بيورانيوم النيجر. ولكن يجب الرضا بمكانة الرعايا النيجيريين في ذيل ترتيب مؤشّّرات التنمية البشرية، منها عدم الحصول على كهرباء، مثلا.
طبعا، لا يمكننا، في مقالة، حصر كل التداعيات التي نراها ماثلة للعيان من جرّاء تلك الانقلابات. ولكن، على الأقل، نعلم أنها ليست ظاهرة بريئة، ولكنها ظاهرة لإعادة تشكيل نظام الاستغلال، لأننا لسنا بُلهاء حتى نصدّق التقارير الفرنسية التي تقول إن الرئيس ماكرون وبّخ مسؤولي الاستخبارات، لعدم تنبؤهم بمؤشّرات الانقلاب في النيجر، مع كل ذلك الوجود العسكري (قاعدة فرنسية وأخرى أميركية) ووسائل التنصّت عالية الدقّة في السفارة الفرنسية.
ما يجب أن نعلمه، حقّا، أن لهذه الظاهرة ما بعدها، وأن هرمية النظام العالمي لن تتشكّل من دون ضحايا والقارّة الأفريقية كانت، ولا تزال، الضحية المثلى، حتى لا نصدّق تلك العبارات الرنانة التي تأتي من هذه القوة أو تلك بأنها تعمل على منح القارّة فرص شراكات مغايرة للشراكات الاستعمارية الغربية السابقة.