في استعصاء الحرب الإثيوبية
في تطور لافت ومفاجئ في الحرب الإثيوبية، أصدرت جبهة تحرير شعب تيغراي، في 19 الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، أوامر لقواتها بالانسحاب من أقاليم العفر والأمهرا المجاورتين، والعودة إلى داخل حدود إقليم تيغراي، داعية إلى إحلال السلام مع الحكومة الإثيوبية. تلا ذلك مباشرة إعلان الحكومة الفيدرالية اختتام العملية العسكرية ضد "الجبهة" بتحقيق أهدافها الرئيسية؛ وذلك بهزيمة مقاتلي "التيغراي" وحلفائهم الذين كانوا يزحفون صوب العاصمة في الأسابيع الأخيرة الماضية.
ويكمن سر هذه التحول المفاجئ في استخدام الجيش الإثيوبي ضربات الطائرات المسيّرة، والتي مكّنته من وقف تقدم مقاتلي "التيغراي" وحلفائهم جنوبًا على العاصمة وهزيمتهم في أقل من أسبوع؛ ويحمل هذا التحول الدراماتيكي أبعادًا مهمة: فلأول مرّة باتت جبهة التغيراي تتحدّث عن استعدادها للتفاوض بدون شروط مسبقة، كما صرّح ذلك زعيم الجبهة، دبرسيون ميكائيل، في رسالة بعثها في 19 ديسمبر إلى الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس. وذهبت الحكومة الفيدرالية إلى فتح حوار وطني شامل، يفضي إلى وضع حل دائم للصراع الداخلي، بما في ذلك إجراء استفتاء حول الانفصال الذي تدعمه المادة 39 من الدستور. لكنها، من جهة أخرى؛ اشترطت لإدراج الجبهة في عملية الحوار تسليم أسلحتها وبعض "الكيانات الإجرامية" داخلها. وقالت إن الجبهة ليست "المكوّن" الذي يمثل شعب تيغراي في عملية الحوار الوطني، حسب تصريح لوزير الدولة الإثيوبي للشؤون الخارجية، رضوان حسين.
هل هي إذن نهاية الحرب؟ يصعب القول بذلك، فالحديث عن انتهاء الحرب ما زال بعيدا لأسباب، منها: أن العمليات القتالية على الميدان لم تنته بتقهقر قوات التغيراي شمالًا، بل تستمر في جنوب إقليم تيغراي، وهي منطقةٌ سيطرت عليها مليشيات أمهرية في وقت مبكر من الحرب. ولا تزال الحكومتان الإثيوبية والإريترية حريصتين على منع تمكّن قوات الجبهة الوصول إلى تلك المناطق وفتح خط إمداد خارجي إلى السودان. كما تدور، من جهة أخرى، عملياتٌ قتالية بين القوات الفيدرالية وقوات الجبهة في جنوب الإقليم، وتحديدًا في مدينة ألاماتا الحدودية.
وعلى المستوى السياسي؛ يتمسّك المسؤولون الفيدراليون بضرورة نزع سلاح الجبهة، ويشترطون هذه الخطوة لفتح أي حوار معها، لأنهم يرونها تشكل خطرًا دائمًا على استقرار الحكم المركزي، علاوة على اتهامهم لها بارتكاب فظائع في أثناء الهجوم أخيرًا على مناطق عفر وأمهرا. وبالطبع، لن يقبل بأي اقتراح من هذا القبيل قادة التيغراي؛ لشعورهم الراسخ بأنهم يواجهون تهديدًا وجوديًا من جيرانهم من كل الاتجاهات.
إثيوبيا اليوم أمام نهاية فصلٍ من فصول الحرب لا أكثر، إذ لا تلوح في الأفق تسوية شاملة لحالة الصراع المتفجّر
يعني ذلك كله أننا أمام نهاية فصلٍ من فصول الحرب لا أكثر، وأنه لا تسوية شاملة في الأفق لحالة الصراع المتفجّر على ما يبدو؛ والذي ينبثق من رواسب بنيوية وتاريخية سحيقة مرتبطة بتشكّل الدولة الإثيوبية الحديثة وحالة الصراعات التي سادت فيها في القرن والنصف الماضيين. فتاريخيًا، لطالما كان الانتصار العسكري حاسمًا للسيطرة على المركز في إثيوبيا، وهو ملمحٌ لم يتغير في التاريخ السياسي الإثيوبي الحديث؛ بدءًا من الغزوات العسكرية للإمبراطور منيلك الثاني إلى الأراضي الجنوبية في أواخر القرن التاسع عشر، ومرورًا بانتصار هيلا سيلاسي في معركة سيغال عام 1916 ضد سلفه، وكذلك حكم الديرغ العسكري في السبعينيات، ولم تكن جبهة EPRDF في عام 1991 استثناءً بهذا الخصوص. ويتمثل المأزق الذي دخلته الدولة الإثيوبية في ظل حكم أبي أحمد في توهّمه حل الإشكالات غير المحسومة في طبيعة حكم البلاد بتحقيق انتصار عسكري سريع ضد الجبهة التي حكمت البلاد في العقود الثلاثة الأخيرة، وهو ما فجّر، بطبيعة الحال، فوهة بركان من العنف العرقي المتراكم في البلاد.
يعيش رئيس الحكومة، أبي أحمد، الذي قاد بعض المعارك بنفسه في ميادين الحرب، ونجح على الأقل في منع سقوط العاصمة بيد مقاتلي التغيراي، في حالةٍ من الشعور بالانتصار، وقد يذهب في حالة قصوى من هذه النشوة إلى محاولة توجيه ضربةٍ قاضيةٍ وأخيرة لجبهة تيغراي، وهو الخيار الذي يدفع إليه حلفاؤه من الأمهرا والنخب الحاكمة الأخرى، وهو قرارٌ سيكلف خسائر بشرية فادحة. ولكن علينا أيضًا ألا نستبعد حدوث مزيد من التقلبات في معادلة الصراع، فجبهة التيغراي تحظى بدعم هائل في الداخل، وستسعى إلى الزحف على المناطق الجنوبية مرة أخرى، كما حدث في يوليو/ تموز الماضي بعد إعلان الحكومة حسم المعركة لصالحها، وهو أمرٌ يترجح احتماله، إذا نظرنا إلى قدرة القوات الفيدرالية على السيطرة على السهول بالطائرات المسيّرة، لكنه يكاد يكون من المستحيل هزيمة جبهة التيغراي في المناطق الجبلية، علاوة على أن الأخيرة أثبتت قدرتها على بناء تحالفاتٍ مع خصوم أبي أحمد الآخرين، بما في ذلك الأوروميون، وهو تحالفٌ مفتوحٌ للتوسع مع تدهور الظروف الاقتصادية والسياسية في البلاد.
الأمر الملحّ في وضع الحرب الإثيوبية الحالية؛ هو المستوى القاتم من عدم اليقين الذي وصلت إليه البلاد في كل المناحي السياسية والاقتصادية والوطنية وتماسك الحد الأدنى من النسيج الوطني الإثيوبي الذي تفتّت إلى أعراق وقوميات تخوض الحرب على أنها مسألة وجود بالنسبة إليها؛ فأبي أحمد يتخوّف من إطاحته، خصوصًا بعد أن فقد حاضنته السياسية في إقليمه أوروميا، الذي دخل عبره التحالف الحاكم سابقًا (EPRDF)، والذي حلّه بنفسه. أما حلفاؤه الأمهرا (أخواله للدقة، بلغة الاصطفافات العرقية السائدة في المشهد الإثيوبي) فيخشون من إبعادهم من السلطة، كما حصل بعد إسقاط إمبراطوريتهم العتيقة في سبعينيات القرن الماضي. ويتخوّف التيغراي من الاجتثاث والتعرّض لإبادة شاملة، وبالفعل توصم الجبهة بالإرهابية، و"الأعشاب الضارّة" والخطر الداهم الذي يجب محوه. في ظل هذه الظروف، يرى الجميع أن تحقيق نصر عسكري هو الخيار الوحيد الماثل للبقاء.
ما زال حكم أبي أحمد يواجه عقباتٍ عميقة، ويحتاج إلى لملمة جبهته الداخلية وتحسين صورته الخارجية
أما بالنسبة لمستقبل إدارة أبي حمد، وعلى الرغم من نجاحه المؤقت في منع سقوط العاصمة بيد مقاتلي التيغراي، إلا أن حكمه ما زال يواجه عقباتٍ عميقة، ويحتاج إلى لملمة جبهته الداخلية وتحسين صورته الخارجية، وإعادة بناء الاقتصاد الذي ظل عنصر الاستقرار الوحيد في ظل حكم الجبهة التي يحاربها، وكذلك استعادة الخدمات في المناطق الشمالية التي تدمرت كليًا بفعل الحرب الطاحنة التي استمرت شهورًا، وكذلك الإفراج عن السجناء السياسيين، بمن فيهم الذين ينتمون إلى عرقية الأورورمو، وآلاف المدنيين الذين اعتُقلوا من دون تهمة بموجب قانون الطوارئ الذي صدر في بداية نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي.
قد يحل الحوار الوطني الذي أعلنته الحكومة الفيدرالية بعضًا من تلك المسائل؛ لكن المسألة المستعصية تظل إيجاد تسوية دائمة لمسألة إقليم تيغراي، وإعادة إدماجه في النسيج الوطني الإثيوبي؛ خصوصًا أن الانفصال عن إثيوبيا بات سقف مطالبة الإقليم. وحاليًا تطالب جبهة تيغراي من المجتمع الدولي فرض منطقة حظر طيران فوق الإقليم، والذي ما زال الجيش الفيدرالي يقصفه بشكل متكرّر، وفرض حظر أسلحة على الحكومتين الإثيوبية والإريترية. ولكن من غير المرجّح أن يتخذ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أيًا من هذه الإجراءات، بالنظر إلى اعتراضات الصين وروسيا في هذا الخصوص.
وقد أثبتت إثيوبيا في هذا السياق (كما في حالات أخرى قريبة، أبرزها سورية) انقسام المجتمع الدولي وعجزه عن وقف كوارث الحروب الداخلية لأية دولة وفداحاتها، وقد راهن كثيرون على المجتمع الدولي في الحالة الإثيوبية بحكم تمتعه بنفوذ وفاعلية يمكنه استخدامهما لزيادة الضغط من أجل تسوية سلمية. ولكن ظهرت على الفور حسابات جيوسياسية لبعض القوى الدولية الذي قدّمت للنظام الدعم السياسي والعسكري الذي احتاجه للسعي إلى إنهاء خصومه. وبالنسبة للخطاب الإثيوبي الرسمي، كانت "هزيمة الغرب" دافعًا إضافيًا في تقرير مصير هذه الحرب. (يدغدغ هذا الأمر مشاعر القوميين الإثيوبيين، ويذكّرهم بسرديات الدولة التي لم تُستعمر في أفريقيا).
تواترت الأخبار منذ بداية الحرب أن تركيا والإمارات والصين زوّدت الجيش الإثيوبي بطائرات مسيّرة
وقد تواترت الأخبار منذ بداية الحرب أن تركيا والإمارات والصين زوّدت الجيش الإثيوبي بطائرات مسيّرة، كما أن زيارة وزير الخارجية الصيني، وانغ يي، في الأول من الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول) أديس أبابا بعثت رسالة صريحة بالدعم السياسي لأبي أحمد. إلا أن دوافع كل طرف مختلفة: فلدى الصين مصالح اقتصادية كبيرة في إثيوبيا، وتراها حليفًا مهمًا في تنافسها مع الولايات المتحدة في أفريقيا. بينما تسعى تركيا إلى توسيع مبيعاتها من الأسلحة الجديدة. أما الإمارات، فتراهن على إدارة أبي أحمد الذي استثمرت في حكمه منذ وصوله إلى السلطة في عام 2018 لتعزيز وجودها المتنامي في البحر الأحمر.
أما حسابات القوى الغربية فتمحورت حول الهلع من سقوط الدولة في أديس أبابا، لارتدادات مسألة اللاجئين على دول الاتحاد الأوروبي. ولذلك اتخذت هذه الدول مواقف أكثر نقدية تجاه طرفي الصراع، وإن اقتصر هذا على المستوى الإعلامي وخطابات المنظمات الدولية ومنصات حقوق الإنسان التابعة لها والمندّدة بالوضع الإنساني في البلاد، وأمعنت الصحافة الغربية في إحراج أبي أحمد الحائز على نوبل للسلام في الخارج وصورته أمير حرب طائشًا. ولكن دول الاتحاد الأوروبي، مضافة إلى الولايات المتحدة، تردّدت في فرض عقوبات فعلية على أديس أبابا، على غرار المفروضة على النظام الإريتري، على أساس أنها ستقلل من نفوذهم في إثيوبيا لصالح الصين وروسيا. ولذلك اكتفوا بدعم جهود مبعوث الاتحاد الأفريقي أوباسانجو. وفي هذه المعادلة؛ أضحت إثيوبيا ضحيةً أخرى للنظام العالمي المتعدّد الأقطاب الناشئ. وهي القصة الكلاسيكية ذاتها في الدول المبتلاة بالحروب مثل ليبيا، وسورية، واليمن.. وغيرها.