في ازدهار العصبيات الهوياتية
خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضي، وبالتزامن مع جديد فصول الحرب الباردة وأفول الاتحاد السوفييتي، شهدت الأفكار الديمقراطية الليبرالية رواجاً وانتعاشاً كبيريْن، في دول ما كان يُعرف بـ"المعسكر الاشتراكي"، وكثيرٍ غيرها أيضاً. لم تكن الأحزاب والتيارات المعارضة للأنظمة العربية بعيدة عن هذا التوجّه، فقد تبوّأت مفردات ثقافة حقوق الإنسان، والمطالبة بالديمقراطية وإطلاق الحرّيات العامة مكانةً بارزة في خطابها السياسي، بما في ذلك الحديث عن "المجتمع المدني" و"دولة المواطَنة المتساوية". جاء هذا التطوّر الخطابي على حساب ما اعتادت تلك النخب تنظيره، عن الشعارات القومية أو الاشتراكية، التي تنتمي إلى ما ترعرعت في كنفه من أيديولوجيات خَلاصية كبرى، ولم تكفّ عن "النضال" في سبيلها عقودا، شأنها شأن مثيلاتها من نُخب "العالم الثالث".
ومع صعود ظاهرة العولمة، ساد ضربٌ من التفاؤل لدى كثيرين أنّها ستكون عاملاً يساعد في تعميم "النموذج الديمقراطي"، سيّما وأنّ الديمقراطية باتت أشبه بقيمة كونية، لا ينبغي النظر إليها نظام حكم يناسب شعوباً بعينها دون غيرها، وإنما هي منجزٌ حضاري للإنسانية جمعاء، طوّرته خلال سعيها الطويل إلى إيجاد توازن بين السلطة، بما هي ضرورة لتنظيم المجتمعات، والحرية مطلبا رئيسا للأفراد.
سواء أتى ذلك ردّاً على العولمة من أنظمة وقوى تخشى على سلطتها، أو بدعم قوى عالمية مهيمنة باسم العولمة، ولا تنسجم مصالحها مع التحوّلات الديمقراطية، فإنّ ما جرى كان على عكس الرهانات الديمقراطية الساذجة الحالمة بحقوق الإنسان والمواطن. لقد ازدهرت بسرعة هائلة العصبيّات الهوياتية، على اختلاف صورها، كالطائفية والمذهبية والعرقية، مع نفحةٍ شعبويةٍ مفرطة في عنفها وإقصائيتها. وللمفارقة، انتشر هذا الفوران الهوياتي في مجتمعاتٍ تعاني الاستبداد وتسعى للخلاص منه، وفي مجتمعاتٍ تسودها أنظمة ديمقراطية، فأصبح الحديث باسم "الجماعات" حاضراً بقوّة في ميادين الصراع السياسي، فضلاً عن الاستثمار الهوياتي في حشد المقاتلين لفتح جبهات الحروب.
شدة نمو العصبية وتماسك "الجماعة" على أساس "هويتها" الخاصة يتناسب عكساً مع اندماجها الوطني في إطار المجتمع الأوسع
في مناخٍ كهذا، تكسد لا محالة البضاعة الديمقراطية، فهي تقوم أساساً على وجود الإنسان/ المواطن/ الفرد (أياً تكن هويته الجندرية)، بوصفه كائناً سياسياً مستقلاً ذا أهلية، بمقدوره تبنّي خيارات سياسية تنسجم مع قناعاته ومصالحه، في حين أنّ منطق العصبية الهوياتية والتفكير الجماعاتي يلغي وجود الفرد السياسي الحرّ، ولا يكترث لموقفه أو خياره الذاتي، إذ يدمجه قسراً في "الجماعة"، بوصفها فاعلاً سياسياً ينوب عن الأفراد، الذين شاءت الأقدار أن يولدوا فيها. ومن ثمّ، تعدّ درجة حضور العصبيات الهويّاتية أو غيابها في الصراع السياسي مقياساً هاماً يتيح تبيّن مستوى التناقضات في المجتمعات ذات التنوّع القومي أو الديني أو المذهبي، ومؤشّراً على حظوظ الديمقراطية فيها.
شدة نمو العصبية وتماسك "الجماعة" على أساس "هويتها" الخاصة يتناسب عكساً مع اندماجها الوطني في إطار المجتمع الأوسع، الذي يُفترض أنّ أفرادها، أولاً وأخيراً، مواطنات ومواطنون ينتمون إليه. بعبارة أخرى، يتناسب انتعاش دولة المواطَنة المتساوية طرداً مع انخفاض منسوب الولاء للعصبيات الهوياتية، ويترسّخ الانتماء لتلك العصبيات بصورة أشدّ، كلما تراجعت قيم المواطَنة، بما تنطوي عليه من حقوق وواجبات متساوية، وفرص متكافئة في المشاركة السياسية.
على ما سبق، جاز القول بتناقض التفكير الهوياتي في السياسة مع قيم المواطَنة المتساوية الحديثة، والفكر الديمقراطي. ذلك أنّ أهمّ خصائص الدولة الديمقراطية، دولة المواطَنة الحديثة هي عموميّتها، أي أن تكون دولةً لعموم مواطناتها ومواطنيها بصفتهم هذه، بالتساوي ومن دون استثناء أو تمييز، على أساس الدين أو المذهب أو القومية، وسواها من المعتقدات والأصول والانتماءات، التي تنطلق منها الولاءات العصبوية الهوياتية. وتتأسّس عمومية الدولة وحداثتها، وتالياً حداثة علاقات المواطَنة فيها، على حيادها تجاه التعيّنات الهوياتية لسائر مواطناتها ومواطنيها، من أديان ومذاهب وأصول وعقائد وغيرها، فلا تترتّب نتائج سياسية أو قانونية على انتماءات الأفراد وأصولهم تلك.
يتناقض التفكير الهوياتي في السياسة مع قيم المواطَنة المتساوية الحديثة
ولمّا كان الدستور يشكّل القاعدة التي تُبنى عليها التشريعات والقوانين، ويضع أسس النظام السياسي والحقوقي لكل دولة، فإنّ احترامَ مبدأ المواطَنة المتساوية أو انتقاصه يبدأ من هنا: إمّا أن تؤسّس القواعد الدستورية لقيام دولة مواطَنة متساوية لا تمييز فيها، أو أن تتضمّن ما من شأنه المفاضلة بين المواطنين/ات، عبر إلغاء فردانيتهم وعدّهم أعضاء في جماعات هوياتية متباينة، وبالتالي الانتقاص من مبدأ المواطَنة المتساوية.
لعلّ في مجريات ثورات الربيع العربي ومآلاتها ما يؤكّد كيف أنّ هيمنة الانقسامات الهوياتية، إقليمية أو طائفية أو عشائرية وغيرها، تعمل ضدّ التصرف العقلاني للمواطن، فتحرمه ممارسةَ حرّية اتخاذ خياراته الفردية، وتقف عقبةً أمام نمو القيم والمثل الديمقراطية. على هذا النحو، كثيراً ما ذهب "مثقّفون" متعصّبون لهويّاتهم، عند "الخيار" بين دكتاتورية عسكريّة وأخرى دينية/ طائفية، إلى المفاضلة بين "سيّئ وأقلّ سوءاً"، استناداً إلى وجود رابط هويّاتي يجمعهم بإحداهما، فيختارون القبول بها، أو السكوت عنها في أقلّ تقدير. لكنّ من يتّخذ مواقفه بناءً على الفكر الديمقراطي الحر لن يعبأ لتلك الروابط الزائفة، فخياره مواجهة الفريقين معاً، والدفاع عن ضحايا الدكتاتورية العسكرية والأصولية، بصرف النظر عن "الهويات"، قاتلةً كانت أم قتيلة.